الأفغان المعزولون يفكرون في النزوح الجماعي

في «سقف العالم» نأوا بأنفسهم عن العنف الذي ضرب باقي البلاد

ينتمون إلى عرقية القيرغيز في منطقة نائية واقعة بين طاجيكستان وباكستان والصين (واشنطن بوست)
TT

في هذه المنطقة النائية من البلاد تعيش مجموعة من الأفغان بعيدا عن سيطرة الحكومة وطالبان والمياه النقية والطرق والعملات الورقية والقوات الأجنبية والرعاية الصحية.

خلال السنوات القليلة الماضية، نقلت المحطات التلفزيونية لهم جلسات البرلمان وهجمات المتمردين والصور الأولى لرئيس الدولة. وأنشأت منظمة مساعدات غربية مهبطا وعرا الطائرات، ونقلت موظفيها في أول طائرات يراها المقيمون في تلك المنطقة. وقد وصل الزوار من كابل حاملين صورا عن الفصول الدراسية الحديثة والعيادات الطبية، وجلب التجار معهم الهواتف الجوالة، على الرغم من أن أقرب تغطية تبعد مئات الأميال.

كان هؤلاء السكان الذين يبلغ تعدادهم 1100 شخص ينتمون إلى عرقية القيرغيز في هذه المنطقة النائية من أفغانستان، الواقعة بين طاجيكستان وباكستان والصين، قد نأوا بأنفسهم عن العنف الذي ضرب باقي البلاد. لكنهم تمكنوا من العيش من دون المعونات الأجنبية التي ساعدت في إعادة إعمار واحدة من أفقر الدول في العالم. لكن أفقر عرقية في أفغانستان بصدد اتخاذ أهم قراراتها بالرحيل عن المنطقة إلى قرية أخرى من أفغانستان، أو أي مكان آخر.

وعلى الرغم من الجهود الدولية التي تكلفت مليارات الدولارات لبناء الدولة الأفغانية التي تضم العشرات من القبائل والمجموعات العرقية المتباينة، يعد ممر واخان واحدا من كثير من الأماكن التي لا تزال الولاءات المحلية سائدة فيها.

وقد ألقت التطورات التكنولوجية المحدودة التي وصلت إلى المنطقة نظرة خاطفة على النمو النسبي في المناطق الأخرى من البلاد، والمحنة التي يعاني منها القيرغيز.

وقال إبراهيم (22 عاما) أحد سكان ممر واخان، يحمل اسم واحدا فقط: «لا يوجد شيء ذو أهمية بالنسبة لنا هنا، لقد نسينا العالم».

هناك كثير من الأسباب التي تدفع سكان هذا الوادي للرحيل. فواحد من بين اثنين من المواليد هنا يموت دون سن الخامسة، وهو أعلى معدل وفيات للأطفال الرضع في العالم. معظم السكان يعيشون على بعد أكثر من 12 ساعة سيرا على الأقدام من أقرب تجمع حضري ودون فصل دراسي واحد.

تهب العواصف الثلجية وتنخفض درجات الحرارة بشدة خلال فصل الصيف، والمصدر الوحيد للحرارة يتمثل في حرق روث حيوانات الياك. وتبعد كابل عن الوادي 250 كيلومترا ويستغرق منهم نحو 10 أيام للوصول إلى هناك،بواسطة الياك، ثم سيرا على الأقدام، وفي نهاية المطاف، بالسيارة. وخلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم يروا بطاقات الاقتراع هناك.

ممر واخان هو امتداد ضيق من الأراضي العشبية المتفرقة التي تقع بين بعض أعلى الجبال في آسيا. تطلق عليها قيرغيزستان اسم بام الدنيا، أو «سقف العالم». ولا يتمكن سوى قليل من الطيور أو الأشجار البقاء على قيد الحياة في مثل هذا المناخ القاسي.

تبدو هذه المنطقة على الخرائط، أشبه بثمرة صغيرة ناتئة في الصين، في انحراف جغرافي، ينتمي إلى أفغانستان فقط،لأن الإمبراطوريات البريطانية والروسية أنشأته كمنطقة عازلة بعد القتال من أجل النفوذ في منتصف القرن الـ19.

يعد إبراهيم وباقي أبناء قبيلته من القيرغيز أحفاد الرجال والنساء الذين جابوا آسيا الوسطى لقرون، يعبرون الحدود غير المرئية مع قطعان من الأغنام والماعز والأبقار. ولكن عندما أغلقت دول المنطقة حدودها رسميا في أوائل القرن الـ20، وجد ما يقرب من ألف قيرغيزي أنفسهم عالقين في أفغانستان، ومواطنين أفغانا فجأة.

لم يشهد الممر كثيرا من التغيرات منذ ذلك الحين. في الثمانينات، عندما احتل السوفيات أفغانستان، بنى الروس طريقا ترابيا عبر جزء من واخان. لكنه توقف قبل نحو 100 كيلومتر من ليتل بامير، قلب المجتمع القيرغيزي.

ضغط القيرغيز على مدى عقود لتوسيع الطريق، ولكن في ظل عدم وجود تمثيل سياسي لهم في كابل، نظرا لصغر حجم المجتمع القيرغيزي وانعدام تأثيره، لم يحظَ الاقتراح باهتمام يُذكر. وظل عبور القمم التي يزيد ارتفاعها على 15 ألف قدم محاولة مكلفة للغاية. بعد عقود من الانتظار، رضي كثير من السكان بالأمر الواقع، وبأن يظل الطريق والعيادات الصحية والمدارس حلما بعيدا المنال.

المفارقة، التي يدركها كثير من أبناء العرقية القيرغيز في المنطقة قيرغيزستان، هي أن الطرق المكلفة أنشئت في جميع أنحاء أفغانستان خلال العقد الماضي، برعاية كثير من الحكومات الغربية بهدف تحسين الأمن. وأنفقت الولايات المتحدة في جنوب وشرق أفغانستان ملايين الدولارات على بناء البنية التحتية، بهدف تقويض قوة طالبان من خلال تطوير التجارة والتعليم.

ولكن واخان لم تشهد تمردا على الإطلاق. وقد أقام السوفيات عدة قواعد، دون أي معارضة محلية. ولم تظهر طالبان أو التحالف الشمالي في المنطقة.

لا يوجد بالمنطقة سوى عدد ضئيل من السكان الذين ظلوا على الهامش في أفغانستان على مدى الـ30 عاما الماضية من الحرب. وقد فكر الجيش الأميركي لفترة وجيزة في تقديم المساعدات النقدية إلى القيرغيز عام 2008، ولكن الاقتراح تبدد. ولا يستطيع معظم القيرغيز تذكر آخر زيارة لمسؤول إلى المنطقة؛ سواء أكان غربيا أو أفغانيا من كابل.

كان الرحيل عن المنطقة محور نقاش ثلاثة من الشباب القيرغيز؛ إبراهيم وسولابيلياد وأسد الله، وهم يمتطون الياك والخيول عبر ممر واخان، كان الرجال ينقلون المؤن للزوار النادرين سالكين نفس الدروب الصخرية، التي سلكها ماركو بولو عام 1271. لم يحضر أي من الشباب الثلاثة الدراسة في أي مدرسة، نظرا لعدم وجود مدارس على الإطلاق.

وقال إبراهيم إنه سينتظر أربع سنوات كي تجلب «الحكمة» مواردها إلى واخان، لبناء الطريق الذي يربط الوادي بمجموعة المستوطنات والخيام بباقي البلاد. أما سولابيلياد (20 عاما) فقال إنه سينتظر ثلاث سنوات، وقال أسد الله (22 عاما) إنه سيغادر المنطقة خلال عامين، فلم يراود الأمل أحد منهم في الحصول على الخدمات الحكومية.

وأشاروا إلى أنهم سينتقلون إلى قيرغيزستان، إحدى دول وسط آسيا، حيث يوجد أفراد قبائلهم الذين استقروا هناك قبل سنوات، والذين عبروا عن دعمهم لعودتهم إلى وطنهم. أو أنهم سيجدون قرية أخرى في أفغانستان تتوافر فيها الكهرباء والمدارس والهواتف الجوالة. أو أنهم سيحاولون الانضمام مرة أخرى إلى أقربائهم في تركيا الذين انفصلوا عنهم منذ فترة طويلة.

وبينما هم يتناقشون في مستقبلهم، مرت مجموعة من الرجال كبار السن يمتطون ظهور الخيل. كانوا قيرغيزيين انتقلوا إلى تركيا قبل 30 عاما، وكانت تلك آخر مرة يقرر فيها جيل أن واخان كان من الصعب جدا استمرار الحياة فيه.

يعيش الرجال وأسرهم في منازل مريحة لديهم وظائف مربحة. قد عادوا هنا لزيارة الأقارب وإقناع ما تبقى من عشيرة القيرغيز في أفغانستان بأن الوقت قد حان للرحيل عن المنطقة. ويقول محمد عارف (55 عاما) أحد العائدين: «يستطيعون العيش بصورة أفضل. لا يوجد سبب يدفعهم للبقاء هنا».

لكن عبد الرسول (70 عاما) أحد أقدم السكان هنا، فأسند ظهره إلى الخمية وقال: «أنا لا أريد سوى أن أموت هنا».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»