خوان كارلوس يدعو إلى تكثيف الشراكات لغزو الأسواق الدولية.. ويشيد بالإصلاحات السياسية في المغرب

المغاربة تأثروا كثيرا لاستناد ملك إسبانيا على عكازين طبيين

الملك محمد السادس وعائلته في لقطة تذكارية مع الملك خوان كارلوس في قصر السلام بالرباط الليلة قبل الماضية (ماب)
TT

تأثر المغاربة كثيرا وهم يشاهدون في التلفزيون، الليلة قبل الماضية، ملك إسبانيا خوان كارلوس الأول، وهو يغالب نفسه للخروج بمشقة من الطائرة التي حطت به في الرباط، مساء أول من أمس.

ووقف الملك محمد السادس، على غير العادة، عند سلم الطائرة، ليتبادل العناق الودي مع ضيفه الكبير، قبل أن يستند الأخير على عكازين طبيين، يساعدانه على الحركة بعد ان خضع لعملية جراحية دقيقة في شهر مارس (آذار) الماضي، ولم تكن الأولى في حياة الملك الذي عانى كثيرا من الآلام، التي لم تفقده الرغبة في التنقل والسفر إلى الخارج لخدمة بلاده، انطلاقا من الدور المعنوي المرسوم له في الدستور، إذ تعد زيارته الحالية للمغرب دليلا عمليا وملموسا عليه.

سار ملك إسبانيا بحذر فوق السجاد الأحمر الطويل، الذي مد على أرضية المطار، خشية احتكاك أحد العكازين بثوب السجاد. بدا متأثرا ومبتهجا في الوقت نفسه بحرارة اللقاء مع العاهل المغربي الذي اصطحب معه شقيقه الأمير مولاي رشيد، وولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي انحنى ملك إسبانيا عليه وطبع قبلتين على خده تعبيرا عن المحبة والمودة والإعجاب بالأمير النابه. ولم يتناول ملك إسبانيا حبة التمر ورشفة الحليب اللتين استقبل بهما، احتراما لمشاعر الصائمين.

آثر العاهل الإسباني أن يمضي الليلة الأولى في الرباط، ضيفا على مائدة الإفطار التي أقامها له الملك، مقتصرة على العائلة المالكة المغربية بسائر أفرادها، إذ لم يحضرها أحد من الجانب الإسباني، بالنظر إلى أن الوفد الرسمي الكبير المرافق وصل إلى الرباط يوم أمس، باستثناء وزير الخارجية الإسباني مانويل مارغايو، الذي رافق الملك خوان كارلوس على متن الطائرة نفسها.

وهيمن على اليوم الأول من الزيارة التي تستمر حتى الخميس، وهي مدة قياسية، بالنظر إلى قرب المسافة بين المغرب وإسبانيا، الطابع الإنساني العائلي، وهو معطى شدد عليه الإعلام الإسباني بوضوح، مسترجعا علاقة الصداقة القوية التي جمعت الملك الراحل الحسن الثاني بملك إسبانيا. ولم يفت الإعلام التذكير بالدموع المدرارة التي انهمرت من عيني الملك خوان كارلوس، جزعا وحزنا على رحيل الملك الحسن الثاني، وهو يواسي في الرباط ولي عهده الملك محمد السادس، الذي ينادي خوان كارلوس بلقب «العم» تعبيرا عن عمق الصداقة.

ويأمل المغاربة أن تكون زيارة خوان كارلوس الحالية تدشينا لصفحة جديدة في علاقات التعاون بينهما، تمحو شوائب وسلبيات الماضي، وهي كثيرة ومتراكمة، للمراهنة على مستقبل لن يكون مزدهرا وآمنا إلا بالتعاضد بينهما في إطار شراكة استراتيجية سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية، تقرب الشعبين أكثر من بعضهما للانكباب على الملفات المستعصية العالقة (نحو ستة ملايين مغربي يتكلمون الإسبانية) بجودة متباينة.

ويحتاج البلدان إلى بعضهما كثيرا، ليس فقط لكون الجغرافيا تحتم عليهما التفاهم، كما كان يردد دائما الملك الحسن الثاني، ولكن لأن تبادل المصالح الملموسة يدفعهما بالقدر نفسه، إلى تجاوز عثرات الماضي والتقليص من تأثيرها السلبي على الحاضر لوضع اليد في اليد، بغية ارتياد آفاق اقتصادية أرحب: العالم العربي وأفريقيا بالنسبة لإسبانيا، وأميركا اللاتينية وأوروبا بالنسبة للرباط، التي تطمح أن تكون بوابة مزدوجة للعبور والتبادل في الاتجاهين.

وفي مقدمة ما يطمح المغاربة إليه موقف إسباني أفضل وأكثر واقعية وإنصافا على الصعيد السياسي إزاء نزاع الصحراء. ومدريد تدرك أكثر من غيرها، باعتبار إسبانيا دولة حامية سابقا، أسرار وتعقيدات وملابسات ملف الصحراء بما تتوافر عليه وتحتفظ به من وثائق ومستندات تشير إلى ما جرى فوق رمال الصحراء، وما تضمره أعماقها، كما تدرك إسبانيا عمق المطالب المغربية المشروعة في استكمال الوحدة الترابية، ليس بغاية الاستقواء على الجيران، وإنما لمحو صفحة استعمارية أليمة؛ خاصة أن الرباط تبدي في كل وقت مرونة واستعدادا للتفاهم والتفاوض وفق مقولة «لا غالب ولا مغلوب».

ويعتقد كثيرون في المغرب أن إسبانيا إن نزلت بثقلها الدبلوماسي مع المغرب في ملف الصحراء، فإنها ستكسب «ودا تاريخيا» من المغاربة، قد ينعكس بشكل أو بآخر على مجمل العلاقات بينهما، بما في ذلك مشكلة نزاع سبتة ومليلية وباقي الثغور المحتلة من طرف إسبانيا في شمال المغرب.

وفي هذه السياق، تجدر الإشارة إلى تصريح حديث أدلى به رئيس حكومة مليلية المحتلة، خوان خوصي إيمبرودا، الذي قال إن المغرب يسير حثيثا نحو الاندماج في أوروبا، ولا تفصله إلا مسافة صغيرة عن الاندماج الأوروبي، بما يباشره من إصلاحات وتأهيل البلاد اقتصاديا واجتماعيا.

وحرص المسؤول الإسباني على التخفيف من مشكلة مليلية، مكتفيا بالقول إن ما تعاني منه المدينة يكمن في نظره في المعبر الحدودي «بني أنصار»، حيث تنشب بعض المشاكل بين الفينة والأخرى، أي أن ما يتمناه هو ضمان انسيابية في الدخول والخروج من المدينة المحتلة حتى لا تختنق اقتصاديا.

ويبقى وجود جميع وزراء خارجية إسبانيا منذ قيام العهد الديمقراطي فيها إلى جانب الملك في هذه الزيارة أمرا ذا دلالات خاصة تتعدى المجاملات التقليدية. فوزراء الخارجية هم أدرى من غيرهم، بتعقيدات الملفات الثنائية العالقة، وأكثرهم إسهاما في تصور الحلول لكل النزاعات، ومن هنا فإن اصطحابهم من قبل ملك إسبانيا يعد إشارة سلمية نحو الجار المغربي، خاصة أن بينهم من له صدقية مشهود بها، ومقاربة عقلانية ورؤية واضحة لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الرباط ومدريد.

وبطبيعة الحال، فإن المغرب لا ينتظر من رؤساء الدبلوماسية السابقين أن يتحولوا إلى محامين مدافعين عن قضاياه العادلة، لكنهم يمكنهم بتجربتهم وخبرنهم وحكمتهم وتقدمهم في العمر أن ينزلوا بثقلهم في الكفة العادلة، وأن يكونوا شاهدين على مجريات العلاقات في الماضي والحاضر.

جدير بالتنويه أن ملك إسبانيا أضفى طابعا استثنائيا على زيارته الحالية للمغرب، ليس فقط من خلال طبيعة الوفد المهم المرافق بما فيه رجال المال والأعمال، ممن لهم استثمارات في المغرب يسعون لتنميتها وتوسيعها، ومنهم من يستكشف فرصا جديدة، وإنما لأنه يحل فوق أرض بلد مستقر تماما.

ويعلم ملك إسبانيا أن المغرب يواجه أزمة حكومية، يعدها من تجليات الديمقراطية ومظاهر التنافس الطبيعي على السلطة، بين المعارضة والغالبية، لذلك يعتبرها شأنا داخليا عابرا، من دون أن ينسى أن بلاده يتهددها شبح الدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة، على أثر تضييق الخناق على الحكومة الحالية التي يرأسها الحزب الشعبي المحافظ، ليس بسبب الأزمة الاقتصادية المتوارثة وإنما جراء الفضائح المالية التي مست بعضا من قياديي الحزب الحاكم.

ولن يزيد في عمر الحكومة الإسبانية سوى «زهد» الاشتراكيين في العودة إلى السلطة في فترة أزمة عصيبة، مما جعل أصواتا ترتفع منادية بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وكأن البلاد على شفا حرب.

إن حرارة الاستقبال وأجواء الود المتبادل لا تنسي البلدين أن تشييد صرح المستقبل ليس بالأمر الهين، بل ما هو مسؤولية تاريخية مشتركة ومتقاسمة، تستوجب من الطرفين التخلي عن الرؤية الضيقة لمشاكل العصر والأوطان، في ظل ثقافة وعلاقات متشابكة تحكمها إكراهات العولمة ويسودها الاضطراب.

وفي سياق ذلك، دعا الملك خوان كارلوس رجال الأعمال المغاربة والإسبان إلى تكثيف التعاون والشراكات بهدف مواجهة تحديات العولمة والتوجه معا نحو غزو الأسواق العالمية والتوسع الدولي.

وقال ملك إسبانيا، في خطاب وجهه أمس لملتقى الأعمال الإسباني - المغربي في الرباط، إن إسبانيا التي تتوفر على الريادة في العديد من القطاعات، منها النقل واستغلال طاقة الرياح ومعالجة المياه العادمة وتحلية مياه البحر، لا تصبو فقط لوضع خبراتها وقدراتها في خدمة النمو الداخلي للمغرب، وإنما أيضا تبحث عن شراكات مع المغاربة من أجل الخروج معا لغزو الأسواق الدولية. وقال خوان كارلوس «لقد برهن النسيج الاقتصادي لكلا البلدين عن مقاومة وصمود كبيرين أمام تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي وضعت الحكومات أمام قرارات صعبة. وفي هذا السياق اختارت إسبانيا نموذجا للنمو الاقتصادي والتشغيل يرتكز على تدويل شركاتها. وفي السياق ذاته تبنى المغرب رؤية واضحة للتنمية منفتحة على شركائه الدوليين. ونحن في إسبانيا نطمح إلى الحفاظ على مكانة متميزة بين هؤلاء الشركاء».

وأشار الملك خوان كارلوس إلى أن العلاقات المغربية - الإسبانية غنية، كما تدل على ذلك كثافة الاجتماعات والاتصالات بين البلدين. وقال «لقد أرسينا أسس شراكة استراتيجية جديدة سترفع كثيرا من مستوى هذه العلاقات بفضل الحوار السياسي والشراكة الاقتصادية وأجندة ثقافية».

وأعلن العاهل الإسباني أن الدورة المقبلة لاجتماع اللجنة العليا المشتركة بين البلدين ستلتئم الخريف المقبل في إسبانيا، وقبلها سيعقد الملتقى البرلماني المغربي - الإسباني الثاني، وستعمل مثل هذه الفعاليات على تعزيز العلاقات بين البلدين والارتقاء بها. ووجه ملك إسبانيا الدعوة لرجال الأعمال المغاربة للحضور بكثافة والمشاركة بنشاط في الملتقى المتوسطي للأعمال الذي سينظم في برشلونة في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

وأشاد الملك خوان كارلوس بالتطورات السياسية التي عرفها المغرب بقيادة الملك محمد السادس، خاصة اعتماد دستور جديد للبلاد. وقال إن هذه التطورات جعلت من المغرب نموذجا للانفتاح والاستقرار، وكان لها وقع إيجابي على كل المنطقة وعلى العلاقات الإسبانية - المغربية. وأضاف أن المغرب دخل مسلسلا تفاوضيا جديدا مع الاتحاد الأوروبي حول التجارة الحرة الشاملة، وذلك بعد أن أصبح تحرير تجارة المنتجات الصناعية واقعا انطلاقا من 2012، مع انطلاق تنفيذ اتفاقية تحرير تجارة المنتجات الزراعية والأسماك. وقال إن هذه المرحلة الجديدة ستعني مزيدا من الاندماج ومزيدا من الشراكة والترابط بين إسبانيا والمغرب.

وذكر الملك خوان كارلوس أن إسبانيا تدعم المسار المغاربي، وعبر عن أمله في توحيد الدول المغاربية على غرار الدول الأوروبية، الشيء الذي سيفتح للمنطقة آفاقا كبيرة للنمو والتنمية. وأشار إلى أن مشروع الربط القار بين المغرب وإسبانيا عبر مضيق جبل طارق يشكل لبنة أساسية في إطار بناء فضاء للازدهار المشترك بين أوروبا والمنطقة المغاربية.