عملية سجن «أبو غريب» تكشف عن تشتت في الولاءات داخل أجهزة الأمن العراقي

ضباط وجنود يشكون «فسادا متفشيا من القاع إلى القمة»

عربة مصفحة عائدة للجيش العراقي تسير في دورية في محيط سجن «أبو غريب» في ضواحي بغداد (أ.ب)
TT

كان الحراس يقومون بالتعداد المسائي لنزلاء سجن أبو غريب بعد وجبة العشاء، حين انطفأت الأضواء فجأة لتبدأ أكبر عملية اقتحام ينفذها مسلحون عراقيون خلال السنوات الخمس الماضية.

وفيما كان السجناء يضرمون النيران ويشرعون في أعمال شغب في الداخل، بدأ مسلحون هجوما بقذائف الهاون من الخارج. وقاد انتحاري سيارة مفخخة ليفجرها عند البوابة الرئيسية للسجن ويفتح الطريق لاقتحامه.

وعندما نجحت قوات الأمن العراقية بمساعدة طائرات هليكوبتر في استعادة سيطرتها على الموقع في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، كان أكثر من 500 سجين مدان بينهم قياديون كبار بتنظيم القاعدة قد وجدوا طريقهم للفرار.

وأثار هذا قلق الشرطة الدولية (الإنتربول) التي وصفت عملية فرار السجناء الجماعية بأنها خطر كبير يهدد الأمن العالمي.

عملية اقتحام سجن أبو غريب كشفت عن أن القوات العراقية التي دربتها وسلحتها واشنطن وصرفت عليها 25 مليار دولار تقريبا ويتجاوز قوامها المليون عنصر أمني غير قادرة على مواجهة أعدائها الذين تغلبوا يوما على الولايات المتحدة بكل ما أوتيت من قوة. ويقول توبي دودج بكلية لندن للاقتصاد الذي ألف العديد من الكتب عن العراق: «رغم أن الجيش العراقي لديه العدد والعدة والقدرة فإنه يظل قوة غير متماسكة عاجزة عن التنسيق بين عملية جمع المعلومات واتخاذ الإجراءات». ويعود نجاح عملية اقتحام سجن أبو غريب لتشتت ولاءات عناصر القوات الأمنية بقدر ما يعود لمهارات المسلحين الذين نفذوا العملية.

وقال ضابط شرطة عراقي بارز تحدث لوكالة رويترز شرط عدم الكشف عن هويته: «العملية كانت 99 في المائة بتواطؤ من الداخل.. وجدنا مواد متفجرة (تي إن تي) داخل السجن. بعض السجناء نجحوا في تحويل الصابون وزجاجات الماء الصغيرة إلى عبوات ناسفة». كما عثر المحققون على أجهزة كومبيوتر محمولة وهواتف في الزنازين، مما يكشف عن أن السجناء كانوا على اتصال مباشر مع رفاقهم في الخارج. وأزال الحراس المتواطئون شرائح الذاكرة من كاميرات المراقبة قبل الهجوم. وقال الضابط: «الحراس العاملون في هذه الأماكن يتعرضون للأسف لإغراءات حقيقية. غالبا ما تكون بالمال والنساء». وقبل يومين من عملية الاقتحام حذر المسلحون أهالي القرى المحيطة بسجن أبو غريب من استخدام الطريق المؤدي إلى السجن. وقال مسؤولون إن الأجهزة الأمنية تلقت معلومات عن العملية قبل تنفيذها لكنها لم تستغلها. وبمجرد أن تسلق السجناء أسوار السجن وعبروا الأسلاك الشائكة بعد أن وضعوا عليها وسائد النوم كانت هناك سيارات تنتظر واصطحبت قادة «القاعدة» البارزين إلى مكان يرجح أن يكون سوريا.

ويقول جيمس جيفري، السفير الأميركي السابق لدى العراق الذي أشرف على انسحاب قوات بلاده وهو الآن زميل زائر بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إن تزايد قوة المسلحين «مقلق جدا». ويضيف أن العراق لا تزال لديه قدرات قوية ومتخصصة في مجال مكافحة الإرهاب، لكن قواته الأمنية النظامية تحتاج تدريبا. وقال الضابط العراقي البارز المطلع على التحقيقات المتعلقة بعملية الاقتحام إن رد فعل القوات الأمنية لم يكن بمستوى «القاعدة»، وإنها لم تستطع أن تواكب تكتيكات وأهداف المسلحين التي تتغير باستمرار. وأضاف: «نحن نعلم أن قادة (القاعدة) يعرفون تماما نقاط ضعف القوات الأمنية ويحسنون استغلالها». وفي لقاءات أجريت مع ضباط في الجيش والاستخبارات من مختلف الرتب شكا كثيرون من الفساد المتفشي من القاع إلى القمة على نحو يجعل قوات الأمن عاجزة عن مواجهة المسلحين.

وقال ضابط رفيع في الجيش العراقي: «الجميع يعرف الآن أن من يدفع أكثر يحصل على المنصب».

يدفع الضباط الكبار لمن هم أعلى منهم لتأمين مناصبهم ويبتزون الضباط الأدنى رتبة الذين يأخذون بدورهم رشى لتعويض ما دفعوه، فيما يدفع الجنود الصغار لمن هم أعلى للحصول على إذن بالقيام بعطلات. وقال مسؤولون إن بعض ضباط الاستخبارات انشغلوا بابتزاز أصحاب الملاهي الليلية غير المرخصة والمطاعم وغيرها عن جمع المعلومات التي من شأنها أن تجهض أي هجوم.

وقال ضابط مخابرات بارز طلب عدم ذكر اسمه: «لا توجد روح وطنية... الرشوة متفشية جدا والمناصب الأمنية باتت وسيلة للحصول على الثروة وليس خدمة الوطن». وأشار ضابط استخبارات كبير إلى ما ظهر في عملية أبو غريب من تواطؤ داخلي، وقال إن المسلحين يعولون على تقديم الرشوة للمسؤولين الأمنيين ليغمضوا أعينهم عن نشاطاتهم، ولتسهيل عملهم بتسريب معلومات وإعطائهم شارات تعفي حاملها من التفتيش. وقال: «(القاعدة) تدفع أموالا طائلة لبعض المسؤولين الأمنيين هنا وهناك».

ويقول جنود وضباط إن بعض الجنود في المناطق الساخنة أمنيا يدفعون ثلثي رواتبهم الشهرية للضابط المسؤول ليعفيهم من مهامهم، بينما هرب آخرون من وحداتهم لكن أسماءهم لا تزال في قوائم الرواتب، مما يتيح لقادتهم الاستيلاء على رواتبهم. ويقول حيدر، وهو ضابط شاب في الجيش يخدم في مدينة الموصل بالشمال حيث لدى «القاعدة» موطئ قدم بها: «لدينا أكثر من 20 جنديا ندعوهم بـ(الفضائيين) أسماؤهم موجودة في قائمة الرواتب لكنهم غير موجودين». ويقول مرتضى الذي يخدم في معسكر التاجي (شمال بغداد) إن الجنود الذين يشتكون أو يتذمرون من هذا الوضع ينقلون إلى المناطق الساخنة أمنيا، ويؤكد أن 50 جنديا من رفاقه نقلوا خلال الأشهر الماضية من وحدته إلى مناطق ساخنة بسبب رفعهم شكاوى لفرق التفتيش أو لتذمرهم.

ومن المرجح أن يواجه ولاء قادة الجيش اختبارا قريبا.. فنحو 65 ألف ضابط من ضباط الجيش إبان حكم صدام حسين أعيدوا للخدمة في صفوف الجيش الجديد، إلا أنهم يواجهون مستقبلا غير واضح لشمولهم بقرارات اجتثاث البعث التي تشمل أعضاء حزب البعث البارزين وضباط الجيش برتب معينة. وبات مصير هؤلاء مهددا، خاصة بعد إعادة تعيين أحد قيادات التيار الصدري فيما يتعلق بالسماح لهؤلاء الضباط بالعودة إلى الحياة العسكرية رئيسا لهيئة المساءلة والعدالة.

وقال ضابط رفيع المستوى في الجيش: «كل ما ينتظره هؤلاء هو توقيع قرارات طردهم أو تقاعدهم. هم يشعرون بأنهم منبوذون من قبل الدولة. وكل ما فعلوه طيلة السنوات العشر الماضية لم يكن كافيا لإثبات أنهم أبناء العراق وليس صدام».

وبعد اقتحام سجن أبو غريب انطلقت مطاردة في القرى المحيطة بالمكان إلا أن ضابطا في الجيش قال إن السكان رفضوا التعاون. واعترف بعض الضباط السنة بعدم رغبتهم في ملاحقة عناصر هاربة من طائفتهم. وقال طه، وهو ضابط سني كان في الخدمة في أبو غريب ليلة الهجوم: «أعطيت أوامر لجنودي بعدم ملاحقة السجناء الهاربين».