كردستان تنعى «حلاجها» فلك الدين كاكائي.. ونيجيرفان بارزاني يصفه بـ«معلمي»

المتحدث باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني: كان أحد فرسان الثقافة الكردية

نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة كردستان يشارك في حمل نعش فلك الدين كاكائي إلى مثواه الأخير («الشرق الأوسط»)
TT

صدمت كردستان الخميس الماضي بالرحيل المفاجئ لأحد أهم مفكريها وكتابها، وهو الكاتب والصحافي والسياسي المعروف فلك الدين كاكائي، الذي وضع بصماته على صفحات التاريخ الكردي بشقيه «النضالي» و«الثقافي»، حسبما يرويه رفاقه الذين واكبوا مسيرته النضالية في جبال كردستان ومنافي الأرض.

وجاء النعي الأكثر تأثرا من رئيس حكومة الإقليم نيجيرفان بارزاني، الذي حمل نعش الفقيد على أكتافه لمثواه الأخيرة، وهذا ما لم يفعله لغيره من قبل على الأقل في الواجهات الإعلامية، حيث إن بارزاني يعتبر نفسه «تلميذا» لهذا المعلم الكبير كما قال في رسالة حزينة وجهها إلى شعبه بهذه المناسبة وقال فيها: «أكتب اليوم هذه الرسالة وقلبي يعتصره ألم كبير بسبب رحيل أحد أقرب المقربين إلي، وهو فلك الدين كاكائي الذي أعتبره معلما لي». ويستطرد بارزاني: «بعد نكسة ثورة سبتمبر (أيلول) كنت أرى كاك فلك الدين دائما في بيتنا وفي مقرات البيشمركة، وكان المرحوم يلازم والدي الراحل إدريس بارزاني خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخ شعبي، وكانت الأواصر النضالية تقربهما، لذلك كانت جهودهما المشتركة تثمر دائما عن توحيد الموقف الكردي، ولذلك أرى أنه من الطبيعي اليوم أن يحضر تشييع جنازته ممثلون عن كل أجزاء كردستان الأربعة. لقد كان فلك الدين مناضلا قوميا، وصوفيا زاهدا، وكان على الدوام ساعيا نحو الحقيقة، وكان رجلا متفائلا دائما، في أحلك الأوقات كان يشيع أجواء من البهجة والتفاؤل بتحليلاته السياسية والفكرية، وكان الاستماع إلى حواراته ممتعا جدا».

أما مسعود بارزاني، رئيس الإقليم، فقد وجه رسالة إلى عائلة الفقيد أكد فيها أن «الراحل كرس جل حياته من أجل النضال للدفاع عن شعبه، وكان له دور متميز وكبير في ثورة كأحد أفراد البيشمركة ثم سياسيا ومثقفا وإعلاميا، وسطر لنفسه مجدا في وقت كانت الأنظمة الديكتاتورية تواجه شعبنا بالحديد والنار، لكن كاكائي لم يبال بمصاعب وقسوة ظروف النضال وكان دائما موجودا بخنادق النضال، سواء كبيشمركة، أو كادر إعلامي، أو رجل سياسي».

يعرف عن فلك الدين كاكائي زهده عن مناصب الحكومة، واهتمامه بشكل أكبر بشؤون الثقافة والمعرفة، ولم يكن يرفض تلبية أية دعوة من مؤسسة ثقافية لتقديم كتاب أو مشاركة في أمسية أو ندوة ثقافية، وبالمقابل كان على استعداد للتنازل عن مناصبه الحكومية والبرلمانية وحتى الحزبية، ليتبوأها الآخرون، كان مثقفا وسياسيا وكاتبا كبيرا وصل إلى مصاف المفكرين من خلال مؤلفاته القيمة ومن أشهرها بالعربية «العلويون»، و«موطن النور»، و«احتفالا بالوجود» و«حلاجيات»، و«البيت الزجاجي للشرق الأوسط»، و«انقلاب روحي». أما مؤلفاته باللغة الكردية فهي «بيدارى» و«روناهي زردشت»، إلى جانب مئات المقالات والدراسات والبحوث التي ساهم بها طوال مسيرته الثقافية الزاخرة.

وتولى كاكائي حقيبة وزارة الثقافة لمرتين الأولى في عام 1996 وفي المرحلة الثانية عام 2006 وحتى عام 2000، وكان عضوا في البرلمان الكردستاني في دورة برلمانية وتبوأ منصب مسؤول مكتب الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي الكردستاني، لكن حسب المتحدث الرسمي باسم المجلس القيادي للحزب فإنه «كان سرعان ما يمل تلك الوظائف الحكومية والحزبية، ويهجرها ليعود إلى عشه الأصلي، وهو الوسط الثقافي، الذي كان أحد فرسانه الأساسيين». ويقول عبد الوهاب علي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «آخر تكريم لهذا المفكر الكبير كان من عندنا بالسليمانية، فقد دعوناه أخيرا لعقد ندوة ثقافية بالمدينة، وعلى الرغم من اعتلال صحته، والذي بدا عليه بشكل واضح أثناء حضوره إلى السليمانية وتقطع أنفاسه أثناء الحديث، لكنه كما بين لي، فإنه جاء إلى السليمانية ليلتقي بشبابها وشاباتها ولكي لا يحرمهم من لقائه ومن ثقافته، وكان ذلك آخر نشاط ثقافي للمرحوم، وكرمناه خلال الندوة، وكان هو التكريم الأخير أيضا».

وعن انطباعاته الشخصية يقول عبد الوهاب علي: «كان رجلا فريدا بثقافته وفكره، منفتحا ومتواضعا إلى درجة كبيرة، عميقا في تحليلاته السياسية، محلقا بآرائه الثقافية والتقدمية، رجلا ليبراليا إلى حد النخاع، لكنه كان يحترم جميع الأديان والمذاهب إلى حد النخاع أيضا، زاهدا في حياته متجولا وساعيا في دنيا الصوفية».

أما عن عمله الحزبي فيقول علي الذي رافق كاكائي في عدة مراحل في حياته النضالية «لقد التقيت به عام 1981 عندما كان في دمشق في مكتب علاقات الحزب، وبقيت معه هناك لشهرين، وتأثرت بأفكاره إلى درجة أنني لم أكن أحتمل الابتعاد عنه، لذلك لازمته لفترات طويلة، وعملنا معا في مكتب الإعلام المركزي، واستضفته بحكم أعمالي في الفضائيات والصحف لعدة مرات لأنه كان مثقفا وسياسيا من طراز خاص. واللافت في حياة هذا الرجل هو عزوفه عن المناصب والمسؤوليات التي يتكالب عليها الآخرون، فهو بحكم كونه أحد أبرز الزهاد في كردستان، كان يختار العزلة والتفرغ للكتابات والتأمل، بدل الانجرار إلى صراعات ومطامع السلطة والجاه، لذلك تراه، على عكس كثيرين من رفاقه وزملائه، سرعان ما كان يستقيل أو يترك مناصبه الحكومية والحزبية ليتيح الفرصة أمام الآخرين، هذا التواضع وهذه البساطة جعلته رجلا جديرا بالاحترام من جميع فئات الشعب من دون استثناء».

ولد فلك الدين كاكائي عام 1943 في مدينة كركوك، وانضم في سن مبكرة إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وبعد انقسام اتحاد الطلبة إلى قسمين الأول تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني، والآخر إلى الحزب الشيوعي، أصبح فلك الدين عضوا في الحزب الديمقراطي الكردستاني بشكل طبيعي، حيث كان الحزبان يتقبلان ذلك الأمر دون إشكالات. وظل في الحزب إلى حين انهيار ثورة التحررية التي قادها الزعيم الراحل مصطفى بارزاني، ثم عاد مرة أخرى للالتحاق بالثورة التي أعلنها نجلا بارزاني، إدريس ومسعود، وظل معهما حتى آخر لحظة في حياته.

لقد سجل فلك الدين كاكائي مجده بأسطر من نور على صفحات تاريخ الشعب الكردي، مناضلا ومثقفا ومفكرا وإنسانا.