قصي.. طفل سوري بات رجلا قبل الأوان في شوارع بيروت

شهد موت والده خلال رحلة النزوح إلى لبنان

سورية في أحد شوارع بيروت أمس مع طفليها («الشرق الأوسط»)
TT

باكرا يبدأ دوام عمل قصي. يستيقظ عند السابعة من صباح كل يوم، على أصوات أبواق السيارات والباصات التي تحيط به من الجهات جميعها. منزل قصي، الطفل السوري النازح إلى لبنان، والبالغ من العمر عشر سنوات، هو الشارع، والرصيف هو سريره.

علب «العلكة» والمناديل الورقية هي عدة عمله، يحملها ليجول بها بين السيارات طالبا من أصحابها الرحمة. يخاطب قصي المارين بلكنته السورية الخجولة، ولا يقبل أن يأخذ المال حسنة، لأنه لا يأخذ إلا ثمن ما يبيعه.

من طالب على مقاعد الدراسة في سوريا، بات قصي بائع علكة في شوارع بيروت. الحرب في بلاده، التي لم ترحم صغيرا أو كبيرا، والأحداث الدائرة في منطقته دير الزور دفعته إلى ترك مدرسته قسرا، وتحطمت أحلامه بأن يصبح مهندسا زراعيا كبيرا. لدى الحديث عن مدرسته، يسأل بلهفة: «هل الصف الأول متوسط صعب؟»، قبل أن يتابع: «لم أحظ بفرصة لاختبار مقاعد الدراسة في صف الآنسة منى، إذا كانت لا تزال على قيد الحياة بعد أن احترقت جدران المدرسة».

بين الحين والآخر، يصرخ بلكنته السورية أمام المارة: «قداحة آنسة.. بتفيدك بالعتمة اسمعي مني».

يتحدث قصي بلغة رجل بالغ لا طفل صغير. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بعد أن كنت أستيقظ باكرا للذهاب إلى المدرسة، أصبحت أستيقظ للعمل. لقد حرمنا من الأمان والأحلام، بيوتنا تهدمت وبتنا نعيش في الشوارع كالمتشردين». ويتابع بألم ترتسم تعابيره على وجهه الصغير: «كنا عائلة جميلة وأبي رجل حنون يعمل (دهانا). لم نكن أغنياء لكننا مستورون ونعيش بسلام». نزحت عائلة قصي من سوريا بسبب الأحداث التي شهدتها دير الزور، وما لحق مكان إقامتها من خراب ودمار. صمدت نحو عامين في شوارع المنطقة وأزقتها، قبل أن تنتقل إلى دمشق. لكن اشتداد المعارك وغلاء المعيشة دفعا العائلة إلى تركها فكان لبنان الملجأ والخيار الوحيد المتاح أمامهم.

سلكت العائلة من دمشق إلى لبنان طريقا غير شرعي، بمساعدة أفراد من «الجيش السوري الحر». توفي أبو قصي خلال عملية الهروب التي أودت بأفرادها إلى بلدة عرسال البقاعية. ثم انتقلوا منها إلى بيروت آملين العثور على مسكن يسترهم وعمل يعتاشون منه، خصوصا بعد وفاة رب العائلة ومرض الوالدة بداء السكري.

لكن طموح العائلة كسواه من العائلات السورية النازحة وغير المقتدرة ماديا، تحطم في شوارع العاصمة اللبنانية. لم تجد الوالدة إلا منزلا متواضعا في محلة سليم سلام، تعيش فيه مع ابنها قصي وابنتها حسنى.

يستغل قصي في محلة سليم سلام مرور طلاب إحدى الجامعات المتمركزة في المنطقة ليحاول كسب زبائن جدد. يحاول أن يسأل أحدهم إذا كان يرغب بشراء مناديل أو علكة أو «قداحة» ليشعل سيجارته، لكن الآخر يرمقه نظرة دونية، فيعاجله قصي بسؤال ساخرا: «شو ما في غيركن ولاد مدارس؟».

هو الطفل السوري الوحيد، الذي يتحدث بنبرة رجل واثق، لتأمين لقمة عيشه ووالدته وشقيقته الصغيرة، التي وجدت من سلة المهملات وسيلة للتسلية والبحث عن فتات الخبز والمأكولات. يردد بين عبارة وأخرى: «الله المعين»، فيما يترقب حركة إشارات المرور بعناية ليخطط لعمله.

الضوء الأحمر هو المؤشر لانطلاق قصي بين السيارات المتوقفة، يهرول بينها وهو ينادي: «اشتر مني وأعطني ثمن ربطة خبز لليوم». يتجاوب البعض معه فيما يرمقه البعض الآخر باشمئزاز. يقول قصي إنه لا يتعب في عمله وهو مصمم على كسب قوت العائلة بعد أن بات «رجل البيت». وما إن تضيء الإشارة الخضراء حتى يعود إلى الرصيف محاولا بيع المارة هذه المرة، أو لالتقاط أنفاسه وتفقد والدته المنتقبة، التي تجلس على الرصيف المقابل تراقب شقيقته بالقرب منها، وتمد يدها للمارة طلبا للمساعدة. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «أنا وعائلتي هنا منذ شهرين، ولم يلتفت أحد إلينا. عانينا قسوة القتل والعنف والإجرام في سوريا، حيث بات أطفالنا يخافون الطائرات وأصوات محركاتها ودوي القذائف والمدفعيات».

وتتابع: «بعد أن كنّا نعتاش من العمل بمهن شريفة، توفي رجالنا وأصبحنا لا نملك إلا أن (نشحذ) على أبواب الجوامع وأرصفة الشوارع وننتظر الطعام من الجيران».

يستشيط قصي غضبا، ويقاطع والدته قائلا: «نحن لا نشحذ، بل نبيع أغراضا مقابل المال، وأنا المسؤول عن العائلة بعد أبي الذي كنا نعيش معه باحترام وسنبقى كذلك». تضيء الإشارة الخضراء، يهرول قصي إلى الشارع ليتابع عمله، بينما تنهمر الدموع من عيني والدته، التي تشير إلى أن غلة ابنها لا تتعدى الستة آلاف ليرة (أربعة دولارات أميركية) يوميا، تقسّم بين ربطة خبز صغيرة وقنينة ماء للشرب فيما يشتري العلكة ببقية المبلغ ليبيعها من جديد في الشارع.

ليس قصي وحده من يعمل في شوارع بيروت. صديقه رؤوف، طفل سوري آخر، يبلغ الثامنة من عمره ويعمل «عتالا» في سوبر ماركت صغيرة محاذٍ للشارع العام في محلة سليم سلام. يبدأ دوام عمله عند الساعة السابعة صباحا حتى السادسة مساء، مقابل مبلغ 20 ألف ليرة لبنانية (نحو 14 دولارا) في الأسبوع. لا يكفيه هذا المبلغ لتأمين حاجات عائلته، كما يقول، لكن لا خيار آخر أمامه باعتباره كرديا، ولا يملك أي أوراق ثبوتية ولا هوية تعرف عنه. يساعد الزبائن على حمل أغراضهم وإيصالها إلى سياراتهم حينا، ويساعد في إنزال البضائع حينا آخر، معولا بدوره على رحمة الزبائن وكرمهم.

الصورة اللاإنسانية للعائلات السورية القاطنة في شوارع سليم سلام ولّدت مبادرات فردية لجيران المنطقة الذين يبادرون في جمع الطعام والحلوى في أكياس وعلب كبيرة في نهاية كل يوم، ويوزعونها على هؤلاء بعد أذان المغرب.

يقول أبو علي وهو سائق تاكسي يوزع الطعام على النازحين السوريين: «بدأنا نشاطنا منذ بداية شهر رمضان الكريم. لقد دفعنا ضميرنا وإنسانيتنا إلى مساعدة الشعب السوري النازح إلى بلادنا ومنطقتنا، فنحن لا نرضى أن يعيش جيراننا على الطريق بلا مأوى ولا مأكل»، مترحما على «سوريا وما يحدث لشعبها».