مسيحيو سوريا يعيشون كابوس مسيحيي العراق على وقع خطف قادتهم الدينيين

باحث في شؤون الأقليات: لا حليف إقليميا أو دوليا لهم كبقية مواطنيهم

مقاتلان جهاديان يركضان قرب أحد خطوط النار في مدينة حلب (رويترز)
TT

أججت حادثة اختفاء رجل الدين الإيطالي باولو دالوليو في مدينة الرقة، واتهام «تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية» بالوقوف وراءها، مخاوف المسيحيين السوريين من مصير مشابه لذلك الذي عاشه مسيحيو العراق من تهجير وخطف وقتل على الهوية، لا سيما وأن اختفاء دالوليو جاء بعد ثلاثة أشهر على خطف مطران حلب للروم الأرثوذكس بولس اليازجي ومطران السريان الأرثوذكس يوحنا إبراهيم بريف حلب، وتضارب الأنباء حول مقتلهما. ولم يتبن أي طرف مسؤولية خطف المطرانين، إلا أن مصادر في الكنيسة الأرثوذكسية أعلنت أن «الخاطفين قد يكونون من (الجهاديين الشيشان) الناشطين في بعض الشبكات الإسلامية في تركيا».

ونفى دبلوماسي تركي، في سياق متصل، أن يكون المطرانان في تركيا. وأكد أن «المطرانين ليسا على الأراضي التركية». وكانت تقارير إعلامية قد لفتت إلى أن «المطرانين محتجزان لدى مجموعات مرتبطة بالمجلس الوطني السوري المعارض وجماعة الإخوان المسلمين». لكن المصدر التركي شدد على أن «هذه المعلومات عن المطرانين اللذين نرغب في أن يفرج عنهما لا علاقة لها بالواقع».

ويعتبر المطرانان المخطوفان، وأحدهما (يازجي) شقيق بطريرك الروم الأرثوذكس الحالي يوحنا يازجي، من القادة الدينيين البارزين لأكبر الطوائف المسيحية في سوريا، الأرثوذكس والسريان. وقد كان لهما دور إنساني وإغاثي في مدينة حلب.

ويشير المعارض والباحث في شؤون الأقليات سليمان يوسف لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «خطف المطرانين ترك أثرا معنويا سلبيا في نفوس المسيحيين، وما زاد في إحباطهم عدم الاهتمام الذي أبدته المعارضة السورية والمجتمع الدولي المهتم بالمسألة السورية بهذه القضية». وأكد أن «موقف المسيحيين تجاه الصراع الدائر في سوريا كان في معظم المراحل حياديا لكن نتيجة التطورات والتفاعلات وتصاعد القتال والعنف وظهور كتائب إسلامية في صفوف المقاتلين المعارضين زادت مخاوف المسيحيين من البديل عن نظام الأسد (الرئيس السوري بشار الأسد)».

وفي حين تشير معظم منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان إلى أن المسيحيين في سوريا، يواجهون أوضاعا صعبة في إطار الفوضى الناجمة عن الصراع الدامي المستمر منذ مارس (آذار) 2011، يؤكد يوسف «وجود الكثير من الحوادث التي تدفع مسيحيي سوريا لمقارنة أوضاعهم بمسيحيي العراق حيث تكثر حوادث الخطف والتهجير بحق نخب وأطباء مسيحيين، ما يدفعهم للهجرة إلى السويد وأوروبا».

ويتقاطع مصير المطرانين المخطوفين في حال تأكدت الأنباء عن مقتلهما مع مصير المطران العراقي بولص فرج رحو، أحد أساقفة الكنيسة الكلدانية الذي اختطف من قبل جماعة من المسلحين بداية عام 2008 وعثر على جثته قرب مدينة الموصل. وعانى مسيحيو العراق موجات تهجير وقتل وتفجير كنائس على يد مجموعات تكفيرية ظهرت بعد سقوط الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، الأمر الذي يدفع الكثير من المحللين إلى اعتبار أن هذا السيناريو بدأ يتكرر مع مسيحيي سوريا.

ويقول يوسف: «ما يخشاه المسيحيون السوريون ليس سقوط النظام ورحيل بشار، كما يظن ويعتقد البعض، وإنما سقوط (الدولة السورية) التي شكلت عبر تاريخها الطويل ملاذا آمنا لهم. فرغم تعدادهم الجيد نسبيا (نحو 10 في المائة من نسبة السكان)، ثمة شعور مسيحي عام بأنهم (الحلقة الأضعف) في المجتمع السوري». ويتابع: «خلافا لمعظم الأقليات السورية الأخرى، المسيحيون أقلية غير مسلحة، أي لا (ميليشيات مسلحة) لهم لتقوم بدور الحماية الذاتية، إذا انفلت الوضع الأمني في البلاد»، لافتا إلى أن «ثمة شعورا لدى المسيحيين بأنه لو سقط النظام لن يكون وضعهم أفضل مما كان عليه خلال حكم الاستبداد، فالنظام الجديد سيستخدمهم لتجميل صورته لا أكثر. ومهما جرى لن يسمح لهم بالمشاركة في الحكم في سوريا ما بعد الأسد».

وتشير معظم الدراسات الصادرة حول المسيحيين في سوريا إلى أن عددهم في تناقص، ففي بداية القرن العشرين كانت نسبة المسيحيين نحو 20% من تعداد سكان سوريا وانخفضت في الخمسينات إلى 17% لتستقر حاليا نسبتهم على 10% أو حتى أقل وفق بعض المصادر. وتعد أبرز أسباب التناقص الديموغرافي للمسيحيين في سوريا: الزيادة الطبيعة المتدنية أي «معدل المواليد» للمسيحيين مقارنة مع طوائف أخرى خصوصا السنة والعلويين من جهة، والهجرة الخارجية المكثفة للمسيحيين لا سيما نحو أوروبا الغربية والأميركيتين وأستراليا كنتيجة للأوضاع السياسية والاقتصادية.

ومع انطلاق الثورة أبدى معظم المسيحيين موقفا محايدا من الصراع الدائر في البلاد. وباستثناء بعض النخب والكتاب الذين توزعوا بين طرفي الصراع، النظام والمعارضة، لم يظهر الشارع المسيحي استعدادا للقتال مع أي طرف.

ويوضح يوسف في هذا السياق أن «النخبة المسيحية من مثقفين وكتاب انخرطوا في الثورة منذ اليوم الأول، لكن الشارع المسيحي بقي على الحياد لأن الظروف والعوامل التي مرت بها الثورة لم تشجع المسيحيين على الانضمام إليها، لا سيما بعد أن اكتسبت الكتائب المعارضة التي تقاتل النظام سمة التشدد الإسلامي وفرضت كل من (دولة العراق والشام الإسلامية) و(جبهة النصرة) أنماط حياتية متطرفة على الناس، لا تناسب المسيحيين».

وفي الفترة الأخيرة، حصلت اعتداءات على مسيحيين في أكثر من منطقة سورية، حيث تم خطف واغتيال الكثير من الكهنة، منهم كاهن بلدة قطنا بريف دمشق الأب فادي حداد. وأكدت منظمات وأحزاب مسيحية آشورية سريانية في بيانات لها قيام مجموعات إسلامية متشددة بالاعتداء على الكنائس والأديرة المسيحية في بلدة راس العين. وكانت مدينة الرقة تضم 600 عائلة مسيحية تقريبا لكن العدد انخفض إلى 50 عائلة بعد سيطرة المعارضة، وصولا إلى اختطاف المطرانين في حلب واختفاء الراهب الإيطالي الأصل باولو دالوليو في مدينة الرقة شمال سوريا.

ويحمل يوسف مسؤولية الحوادث التي يتعرض لها المسيحيون للنظام والمعارضة، فالأخيرة كما يقول «بدلا من أن تتفهم ظروف المسيحيين والعمل على تبديد مخاوفهم وطمأنتهم لمستقبلهم، من خلال تقديم خطاب وطني، مقرون بممارسات وخطوات عملية جدية، تحول من دون تكرار المشهد العراقي في سوريا، أخذت بعض هذه النخب من تصريحات بعض رجال الدين المسيحيين المنحازة للنظام ذريعة لاتهام المسيحيين بالوقوف في وجه (الثورة) وتحذيرهم من عواقب وقوف كنائسهم إلى جانب النظام وارتكاب أخطاء مسيحيي العراق».

وفي حين يرى يوسف أن «دولا عربية عدة تسعى إلى حماية السنة، وتقوم إيران بالمستحيل للحفاظ على وجود العلويين والشيعة، بينما تركيا مستعدة للتدخل لحماية التركمان، والأكراد يعتمدون على مسعود البرزاني، أما المسيحيون فليس لديهم أي حليف إقليمي أو دولي يدعم استمرار وجودهم كبقية مكونات المجتمع السوري»، يوضح أن «المسيحيين قد تركوا من غير حليف أو حصانة ما عزز مخاوفهم، لا سيما بعد التداعيات الخطيرة للأزمة السورية ليلاقوا في ما لو استمر الوضع على ما هو عليه مصيرا مشابها لذلك الذي عاشه مسيحيو العراق».

وينتشر المسيحيون في معظم المحافظات السورية، لكن وصول المواجهات إلى معظم المناطق أدى إلى حركة نزوح وهجرة كبيرة. في العاصمة دمشق وريفها يتركز وجود المسيحيين في دمشق بأحياء القصاع وباب توما وباب شرقي والميدان وطبالة. كما تضم دمشق المقر الرئيس للبطريركية الأرثوذكسية في أنطاكيا وسائر المشرق. وفي ضواحيها، كدمر وحرستا وبرزة، وفي ريفها بجرمانا وكشكول ودويلعة. أما في حلب فيتركز وجودهم في أحياء السليمانية، والعزيزية، والسريان القديمة، وجزء من حي الميدان. وفي حين تعتبر محافظة الحسكة أكبر تجمع مسيحي إذ يشكل المسيحيون فيها نحو 30% من سكانها، تعد منطقة وادي النصارى التابعة لمدينة حمص المنطقة الوحيدة في سوريا التي يشكل فيها المسيحيون أغلبية 65%. وفي حمص المدينة يتركز المسيحيون في الأحياء القديمة كباب السباع وباب الدريب والحميدية، والأحياء الجديدة: كالأرمن والنزهة والوعر والإنشاءات، والضواحي كربلة وفيروزة وزيدل. أما في محافظة حماه فيوجد المسيحيون بحي المدينة بوسط مدينة حماه، وفي ريفها الشمالي والغربي كبلدات المحردة والسقيلبية والبيضا. وفي الساحل، تحديدا محافظة اللاذقية، يتركز المسيحيون في الأحياء القديمة كما توجد تجمعات كبيرة للمسيحيين في مدينة طرطوس وجبل الدروز وحوران، وتجمعات بشكل أقل بالرقة ودير الزور.