العاهل المغربي ينتقد الوضع الحالي للتعليم ويدعو إلى تقييم المنجزات

طالب بتجنب إخضاع تدبير القطاع للمزايدات أو الصراعات السياسية

الملك محمد السادس قبيل إلقائه خطابا بمناسبة الذكرى الستين لـ «ثورة الملك والشعب» في الرباط الليلة قبل الماضية.. ويبدو في الصورة الأمير مولاي الحسن ولي العهد والأمير مولاي رشيد (ماب)
TT

انتقد العاهل المغربي الملك محمد السادس الوضع الحالي للتعليم في بلاده، وقال إن ما يحز في النفس أن وضعه الحالي أصبح أكثر سوءا مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أكثر من عشرين سنة، مشيرا إلى أن ذلك دفع عددا كبيرا من الأسر، رغم دخلها المحدود، لتحمل التكاليف الباهظة لتدريس أبنائها في المؤسسات التعليمية التابعة للبعثات الأجنبية أو في التعليم الخاص، لتفادي مشاكل التعليم العمومي، وتمكينهم من نظام تربوي ناجع.

وعزا العاهل المغربي، في خطاب ألقاه الليلة قبل الماضية بمناسبة الذكرى الستين لثورة الملك والشعب، وعيد الشباب، الذي يصادف الذكرى الخمسين لميلاد الملك محمد السادس، الصعوبات والمشاكل التي يواجهها قطاع التعليم إلى اعتماد بعض البرامج والمناهج التعليمية، التي لا تتلاءم مع متطلبات سوق الشغل، فضلا عن الاختلالات الناجمة عن تغيير لغة التدريس في المواد العلمية، من العربية في المستوى الابتدائي والثانوي، إلى بعض اللغات الأجنبية، في التخصصات التقنية والتعليم العالي، وهو ما يقتضي تأهيل التلميذ أو الطالب، على المستوى اللغوي، لتسهيل متابعته للتكوين الذي يتلقاه.

غير أن ما يبعث على الارتياح، يضيف ملك المغرب، ما جرى تحقيقه من نتائج إيجابية في ميادين التكوين المهني والتقني والصناعة التقليدية، وهي مجالات توفر تكوينا متخصصا، سواء للحاصلين على شهادة الباكالوريا (الثانوية العامة) أو الذين لم يحصلوا عليها، وذلك على مدى سنتين أو أربع سنوات، يخول لحاملي الشهادات فرصا أوفر للولوج المباشر والسريع للشغل، والاندماج في الحياة المهنية، وذلك مقارنة بخريجي بعض المسالك الجامعية، التي رغم الجهود المحمودة التي تبذلها أطرها، لا ينبغي أن تشكل مصنعا لتخريج العاطلين، لا سيما في بعض التخصصات المتجاوزة.

وأوضح العاهل المغربي أنه ينبغي تعزيز هذا التكوين بحسن استثمار الميزة التي يتحلى بها المواطن المغربي، وهي ميله الطبيعي للانفتاح، وحبه للتعرف على الثقافات واللغات الأجنبية، وذلك من خلال تشجيعه على تعلمها وإتقانها، إلى جانب اللغات الرسمية التي ينص عليها الدستور لاستكمال تأهيله وصقل معارفه، وتمكينه من العمل في المهن الجديدة للمغرب، التي تعرف نقصا كبيرا في اليد العاملة المؤهلة، كصناعة السيارات، ومراكز الاستقبال، وتلك المرتبطة بصناعة الطائرات وغيرها.

وعلى غرار هذه المهن والخدمات، والمدارس والمعاهد العليا للتدبير والتسيير والهندسة، قال ملك المغرب إنه يتعين إيلاء المزيد من الدعم والتشجيع لقطاع التكوين المهني، ورد الاعتبار للحرف اليدوية والمهن التقنية، بمفهومها الشامل، والاعتزاز بممارستها وإتقانها، عملا بجوهر الحديث الشريف: «ما أكل أحد قط طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده»، وكذا اعتبارا للمكانة المتميزة التي أصبحت تحتلها في سوق الشغل، كمصدر هام للرزق والعيش الكريم، وهو ما جعل الكثير من الأوروبيين يتوافدون على المغرب للعمل في هذا القطاع الواعد، بل أصبحوا ينافسون اليد العاملة المغربية في هذه المهن.

وأشار العاهل المغربي إلى أنه من منطلق حرصه على جعل المواطن المغربي في صلب عملية التنمية والسياسات العمومية «فإننا نعمل على تمكين المدرسة من الوسائل الضرورية للقيام بدورها في التربية والتكوين».

وزاد قائلا: «إن ما نسهر عليه شخصيا من توفير البنيات التحتية الضرورية، بمختلف جهات ومناطق المملكة، من طرق وماء صالح للشرب وكهرباء، ومساكن للمعلمين ودور للطالبات والطلبة وغيرها، كلها تجهيزات أساسية مكملة لعمل قطاع التعليم، لتمكينه من النهوض بمهامه التربوية النبيلة».

وذكر العاهل المغربي بما حققته بلاده من منجزات هامة في مجال التربية والتكوين، يجسدها على الخصوص ارتفاع نسبة التمدرس، وخاصة لدى الفتيات، وذلك بفضل الجهود الخيرة التي يبذلها رجال ونساء التعليم، بيد أن الملك محمد السادس قال إن الطريق «لا يزال شاقا وطويلا أمام هذا القطاع، للقيام بدوره كقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يبقى السؤال الملح الذي يطرح نفسه: لماذا لا تستطيع فئات من شبابنا تحقيق تطلعاتها المشروعة على المستوى المهني والمادي والاجتماعي؟».

وقال العاهل المغربي إن الوضع الراهن لقطاع التربية والتكوين يقتضي إجراء وقفة موضوعية مع الذات لتقييم المنجزات، وتحديد مكامن الضعف والاختلالات، مذكرا بأهمية الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي جرى اعتماده في إطار مقاربة وطنية تشاركية واسعة، وعمل الحكومات المتعاقبة على تفعيل مقتضياته، وخاصة الحكومة السابقة (حكومة عباس الفاسي)، التي سخرت الإمكانات والوسائل الضرورية للبرنامج الاستعجالي، حيث لم تبدأ في تنفيذه إلا في السنوات الثلاث الأخيرة من مدة انتدابها، غير أنه لم يجر العمل، مع كامل الأسف، على تعزيز المكاسب التي جرى تحقيقها في تفعيل هذا المخطط، بل حصل تراجع، دون إشراك أو تشاور مع الفاعلين المعنيين، عن مكونات أساسية منه، تهم على الخصوص تجديد المناهج التربوية، وبرنامج التعليم الأولي، وثانويات (معاهد) الامتياز.

ونظر المراقبون إلى هذه الفقرة من الخطاب الملكي على أنها انتقاد مباشر لوزير التربية الوطنية محمد الوفا.

يذكر أن الوفا هو الوزير الوحيد من مجموع ستة وزراء ينتمون لحزب الاستقلال، الذي لم يقدم استقالته من الحكومة بعد أن قرر حزبه الانسحاب منها.

وانطلاقا من هذه الاعتبارات، أوضح ملك المغرب أنه كان على الحكومة الحالية استثمار التراكمات الإيجابية في قطاع التربية والتكوين، باعتباره ورشا مصيريا، يمتد لعدة عقود. وقال إنه من غير المعقول أن تأتي أي حكومة جديدة بمخطط جديد، خلال كل خمس سنوات، متجاهلة البرامج السابقة، علما بأنها لن تستطيع تنفيذ مخططها بأكمله، نظرا لقصر مدة انتدابها.

وشدد العاهل المغربي على ضرورة «تجنب إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، وأن لا يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسية، بل يجب وضعه في إطاره الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، غايته تكوين وتأهيل الموارد البشرية، للاندماج في دينامية التنمية، وذلك من خلال اعتماد نظام تربوي ناجع».

وقال الملك محمد السادس: «إن الإقدام على هذا التشخيص لواقع التربية والتكوين في بلادنا، والذي قد يبدو قويا وقاسيا، ينبع بكل صدق ومسؤولية من أعماق قلب أب يكن، كجميع الآباء، كل الحب لأبنائه».

وخاطب العاهل المغربي الشعب المغربي قائلا: «رغم أن خديمك لا يعيش بعض الصعوبات الاجتماعية أو المادية التي تعيشها فئات منك، شعبي العزيز، فإننا نتقاسم جميعا نفس الهواجس المرتبطة بتعليم أبنائنا، ونفس مشاكل المنظومة التربوية، ما داموا يتابعون نفس البرامج والمناهج التعليمية».

وزاد قائلا: «المهم في هذا المجال ليس المال أو الجاه، ولا الانتماء الاجتماعي، وإنما هو الضمير الحي الذي يحرك كل واحد منا، وما يتحلى به من غيرة صادقة على وطنه ومصالحه العليا».

وأشار الملك محمد السادس إلى أنه عندما كان وليا للعهد، درس وفق برامج ومناهج المدرسة العمومية المغربية، وبعد ذلك بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس. وقال إنه إذا كانت للمدرسة المولوية (المدرسة الأميرية) الإمكانات اللازمة لدعم هذه البرامج، فإن ذلك لا يتوفر، مع الأسف، لجميع المدارس العمومية.

وكيفما كان الحال، يضيف ملك المغرب، فإن تلك البرامج قد أتاحت تكوين أجيال من الأطر الوطنية.

وذكر العاهل المغربي بخطابه الذي ألقاه السنة الماضية بمناسبة ذكرى 20 أغسطس، وحدد فيه التوجهات العامة لإصلاح المنظومة التعليمية، ودعا فيه أيضا لتفعيل المقتضيات الدستورية بخصوص المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.

ودعا الحكومة للإسراع بإقرار النصوص القانونية المتعلقة بالمجلس الجديد، مشيرا إلى أنه في انتظار ذلك «قررنا تفعيل المجلس الأعلى للتعليم في صيغته الحالية، عملا بالأحكام الانتقالية التي ينص عليها الدستور، وذلك لتقييم منجزات عشرية الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والانكباب على هذا الورش الوطني الكبير».

وقال العاهل المغربي مخاطبا شعبه: «إن مصارحتي لك، شعبي العزيز، في هذا الشأن، منبثقة من الأمانة العليا التي أتحملها في قيادتك، ذلك أن خديمك الأول لا ينتمي لأي حزب ولا يشارك في أي انتخاب، والحزب الوحيد الذي أنتمي إليه، بكل اعتزاز ولله الحمد، هو المغرب. كما أن المغاربة كلهم عندي سواسية دون تمييز، رغم اختلاف أوضاعهم وانتماءاتهم؛ إذ لا فرق بين رئيس بنك وعاطل، وربان طائرة وفلاح ووزير؛ فكلهم مواطنون، لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات».

وشدد العاهل المغربي على ضرورة اعتماد النقاش الواسع والبناء، في جميع القضايا الكبرى للأمة، لتحقيق ما يطلبه المغاربة من نتائج ملموسة، بدل الجدال العقيم والمقيت، الذي لا فائدة منه، سوى تصفية الحسابات الضيقة، والسب والقذف والمس بالأشخاص، الذي لا يساهم في حل المشاكل، وإنما يزيد في تعقيدها.