طرابلس تلملم جراحها وأهلها مذهولون من هول الكارثة

شيعت ضحاياها وسط هتافات منددة بحزب الله والأسد.. والجيش يكثف دورياته

مسلحون يطلقون نيران أسلحتهم في الهواء خلال تشييع إحدى ضحايا تفجيري طرابلس أمس (أ.ب)
TT

تحولت مدينة طرابلس اللبنانية أمس إلى مدينة شبه مقفرة غداة الانفجارين اللذين وقعا ظهر الجمعة، أمام مسجدي التقوى والسلام، فالمحلات نصف مغلقة، فيما توافد مواطنون إلى موقع الانفجارين كي يروا بأم أعينهم ما حصل في مدينتهم.

«شيء لا يصدق، الدمار هائل ومرعب، ولا يشبه ما شاهدناه في التلفزيون»، يقول الدكتور بلال حفار الأستاذ في الجامعة اللبنانية، وهو يقف أمام الحفرة الكبيرة التي خلفتها السيارة المفخخة التي استهدفت مسجد السلام في شارع الميناء. ويتأمل العمارات التي طارت شرفاتها ونوافذها وباتت حطاما. المكان مكتظ بالذين جاءوا يريدون المساعدة.

وأكثر ما يلفت الانتباه في المنطقة أن الناس يرمون أشلاء بيوتهم، التي دمرها الانفجار، من الشرفات، كراس وقطع حديدية وطاولات وبقايا أثاث. ويصعب السير بمحاذاة تلك الأبنية ويفضل المشي في منتصف الشارع، لتحاشي المواد المتساقطة.

عشرات السيارات المتفحمة ما تزال وسط الطريق، فرجة للأهالي المندهشين مما يرون. يقف أحد العاملين في محل لبيع الهواتف الخليوية، بعد أن فقد الدكان كل واجهاته وبات جزءا من الشارع، لا يريد أن ينطق. يبتسم قليلا ويجيب: «الحمد لله، قليل من الجروح أصيب بها الشبان عندنا، لكن الكارثة كبيرة». الأضرار تمتد على مسافة أكثر من نصف كيلومتر حول الانفجار. الشوارع المحيطة كلها في ورشة رفع أنقاض. ثمة ذهول، وصمت مريب يخيم على الأهالي. أكثر من 40 عمارة تضررت وإن بنسب متفاوتة.

السيارة لم تركن أمام مدخل المسجد تماما وإنما بينه وبين عمارة ملاصقة له جهة اليسار. هذه العمارة احترقت عن بكرة أبيها، وأضرارها تفوق أضرار المسجد. أحمد سبلبل الذي كان يجلس في صيدلية هنا تفحم بالكامل، محلات لبيع الألبسة لم تعد موجودة. تغيرت ملامح المكان بالكامل. تحاول أن تتذكر اسم المقهى الذي وقع مقابلته الانفجار، فلا تسعفك الذاكرة، صار شيئا آخر، لا اسم له ولا شكل. مقهى «جينجرز الشهير» مكان تجمع الطرابلسيين وأنسهم، تطايرت واجهاته الزجاجية، وصار هيكلا.

يروي خالد الأسود الذي يعمل في المقهى أنه كان يجلس مع صديق له بالقرب من السيارة المفخخة. ويضيف: «حين سمعنا صوت انفجار بعيد، ولم نكن نعرف حينها أنه انفجار مسجد التقوى عند نهر أبو علي، هرعنا باتجاه الصوت لنعرف ما حصل. وما إن قطعنا أمتارا، ولم تكن ثلاث دقائق قد مرت بعد، حتى سمعنا انفجارا آخر مزلزلا، نظرنا وراءنا، حتى رأينا دخانا ونارا في المكان الذي كان نجلس فيه، فهمنا أن كارثة ثانية قد وقعت، فعدنا أدراجنا». يتابع الأسود «رجعنا لنطفئ النار، ونلملم الجثث والأشلاء. لم يكن غير الدماء والصراخ. كان ثمة سيارة تحترق وبداخلها رجل وامرأة، أخرجنا الرجل ولم نتمكن من إسعاف المرأة التي تفحمت». «الأصعب»، يقول صديقه عمار الصغير الذي كان معه لحظة وقوع الانفجار، «هو أن الناس كانوا يولولون ويبكون وهم يبحثون عن أبنائهم. كل يأتي ليسألنا إذا شاهدنا ابنه أو ابنته، حاولنا تهدئة روع الناس، لكنهم ما كانوا قادرين على احتمال الانتظار، وهم يعرفون أن أولادهم يحترقون في الداخل، ولا يستطيعون مساعدتهم أو البحث عنهم».

مع إعلان أن عدد الجرحى وصل إلى 900 والقتلى تجاوز الـ45، يفهم لماذا كان كل بيت في طرابلس بالأمس، يتحدث عن إصابة لقريب أو صديق. الكل كان مكلوما ومفجوعا. رجال قوى الأمن الداخلي، الموجودين في المكان يروون أنهم ذهبوا للتبرع بالدم، فقيل لهم إن المتبرعين كثر، ولم يعد من حاجة لذلك. تكافل المجتمع المدني كبير ولافت. الجمعيات الأهلية تكنس الطريق وتلملم الجراح، تصعد إلى المباني، وتساعد السكان في التنظيف ورفع الركام. الجميع يعمل من أجل إزالة آثار الجريمة المقززة، في أسرع وقت. «لا نستطيع أن ننتظر أحدا، الحياة يجب أن تعود إلى الشارع»، تقول أحد الشابات وهي تحمل مكنسة وتنظف.

بالأمس، كل كان يتذكر مأساته، ثمة من كان لا يزال يبحث عن أولاده المفقودين مثل أهل الطفل أحمد غمراوي الذي وزعت صورته للمساعدة في العثور عليه. عائلات أخرى تنتظر نتائج فحوص الـ«د إن آي » في المستشفيات.

القصص كثيرة ومروعة، وعدد الذين في حال الخطر يقارب المائة. عمر عباس، في مستشفى المظلوم، ما يزال في العناية الفائقة، في السبعين من عمره، يسكن قرب مسجد السلام، توجه للصلاة هو صهراه، أحدهما آت من فرنسا لزيارة العائلة، والثاني هارب من سوريا، وقع الثلاثة جرحى. الرجل المسن انهار عليه حائط المسجد، وتعرض لنزف بالأمس، وما يزال في وضع حرج، بسبب 82 قطبة في الرأس، بينما خرج صهراه من المستشفى بعد أن أسعفا.

جاء الشيخ سالم الرافعي، إمام مسجد التقوى، الذي نجا من الانفجار الأول، وهو أحد أبرز مشايخ طرابلس، بسبب دعوته للجهاد في سوريا. المسلحون يحيطون به من كل جانب، برشاشاتهم وبنادقهم، يريد أن يزور مسجد السلام. الناس لم تكن غاضبة، بل كان الذهول هو السمة الغالبة على الوجوه. مثكولون يلملمون جراحهم، ومتضامنون لا يريدون أن يتركوا المنطقة المفجوعة قبل أن يعيدوها إلى ما كانت عليه. في أماكن أخرى من المدينة، كانت مراسم التشييع لعشرات القتلى تخرج من المساجد، والجنائز تزحف صوب المقابر، على وقع أصوات رصاص كثيف وهائج. وفي الميناء قرعت أجراس الكنائس حزنا على الراحلين وتضامنا مع المتألمين.

وعمدت عائلات عدة إلى تشييع ضحاياها ليلا بسبب تشوه الجثث التي كان بعضها محترقا. وشيع سبعة قتلى بعد ظهر أمس بينهم ثلاثة أطفال من عائلة واحدة. وخلال التشييع أطلق مدنيون النار في الهواء وأطلقت هتافات مناوئة لحزب الله الشيعي وحليفه الرئيس السوري بشار الأسد.

وخشية وقوع تفجيرات جديدة، كثف الجيش اللبناني أمس دورياته في طرابلس فيما شوهد مسلحون مدنيون أمام المساجد وقرب مقرات الأحزاب ومنازل بعض السياسيين ورجال الدين. وسير الجيش اللبناني دوريات راجلة ومؤللة في شوارع المدينة، وكان الجنود يوقفون أي سيارة مشبوهة ويعمدون إلى تفتيشها.