طرابلس تحيي ذكرى التفجيرين وأهلها يتخوفون من أن يكونا.. «مجرد بداية»

المدينة مفجوعة تلملم جراحها والضحايا يتحدثون لـ «الشرق الأوسط»

ناقلة جند مدرعة للجيش اللبناني خلال دورية أمس أمام مسجد التقوى في طرابلس (رويترز)
TT

لم يخطر لسكان إحدى العمارات في طرابلس، الواقعة في شارع المئتين، أن عربة صناديق الذرة التي يرونها منذ أيام مركونة في فناء عمارتهم، هي لأحد الذين قتلوا بانفجار «مسجد السلام» البعيد نسبيا عن موقع سكنهم، وأن صاحبها وضعها في عهدة حارس المبنى، ظهر يوم التفجير، الجمعة الماضي، إلى أن يؤدي صلاته ويعود. لكن البائع قتل، وبقيت عربته تنتظره. وتقول ربى التي تقطن إحدى شقق العمارة «استغربت وجود العربة لأيام، وعندما سألت الحارس عنها، أخبرني أن بائعا سوريا يعرفه أودعه إياها أمانة، وذهب مع ثلاثة من أولاد عمه للصلاة، لكنهم قتلوا جميعهم في الانفجار، وتشظت أجسادهم». نتائج فحوصات الحمض النووي للسوريين الأربعة، وهم من عائلة واحدة، ظهرت يوم الاثنين الماضي، ونقلوا ليدفنوا في بلدهم يوم أمس، بعد إجراءات إدارية طويلة ومنهكة. أما صناديق الذرة، فقد اشتراها سكان العمارة، ليساهموا ولو رمزيا، في نقل الضحايا إلى سوريا.

ذهب الذهول وبدأت حالة من الرعب تسود طرابلس، بعد مضي أسبوع على الانفجارين اللذين استهدفا مسجدي السلام والتقوى ظهر الجمعة الماضي، وأوقعا 45 قتيلا و900 جريح. بدأ الضحايا يتكلمون ويروون، ويكتشف الطرابلسيون أن مصابهم أكبر مما كانوا قد تصوروا، وأن كلا منهم يكاد يكون له في الكارثة صلة. فثمة ما يقارب 1000 ضحية في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 400 ألف نسمة.

«طرابلس ليست بمساحة بغداد أو دمشق. بلدنا صغير ومدينتنا لا تحتمل 200 كيلو من الـ(تي.إن.تي) وفوقها مواد شديدة الاحتراق، لم نشهد على شاكلتها من قبل» تقول إحدى المواطنات. ويتكلم عدد من الذين وجدوا قرب مكاني الانفجار أن السيارتين المفخختين كانتا تقذفان حمما مشتعلة تصل إلى أماكن بعيدة وطوابق مرتفعة جدا، مما جعل الأضرار هائلة. وبحسب الهيئة العليا للإغاثة، وتبعا لمسح أولي لأضرار التفجيرين، فقد تضررت 300 سيارة، و680 شقة سكنية، و57 محلا ومؤسسة تجارية، ومدرستان، و85 مبنى، مع العلم أن سكان 222 شقة هم بحاجة إلى إيواء سريع، لأن منازلهم دمرت بالكامل.

كارثة لم تعرف لها طرابلس مثيلا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. وهو ما يفسر الإرباك الكبر في التعامل معها. وتروي رولا التي كانت قرب «المستشفى الإسلامي» عند وقوع الانفجارين أنها شاهدت «جرحى ينزفون ينقلهم الجيش على دباباته، فيما وضعت الجثث داخل الدبابات، وبقي الجرحى ينتظرون في فناء المستشفى لأن العدد فاق قدرة المشافي على الاستقبال».

يروي سمير (18 سنة)، أحد الجرحى، بعد أن بقي أياما عاجزا عن وصف ما جرى له: «كنت أمرّ أنا وصديقي بسيارة على بعد عدة أمتار من مكان الانفجار، فجأة اصطدمنا بسيارة أمامنا، واصطدمت بنا سيارتان من الخلف، وانقلبت السيارة التي كنا نركبها». يضيف سمير: «بقيت لبعض الوقت غير مدرك لما حدث، لا أذكر أنني سمعت صوت الانفجار. ظننت أننا تعرضنا لحادث سير مروع وأنني بين الحياة والموت. عندما بدأت أشاهد دخانا يتصاعد من سيارتنا، أدركت أن علي الخروج منها قبل أن تشتعل. كان الأمر صعبا، ولا يوجد من يمد يد المساعدة. حين أفلحت، وصرت خارجا في قلب الهرج والمرج، لا أدري لماذا اتجهت صوب الحرائق مع كل الحشود التي كانت تركض. لم أكن أعرف أن انفجارا قد حصل، أو أن الدماء تغطيني، في تلك اللحظة. كنت في ذهول كامل، وكأنني فقدت وعيي لكنني أركض في كل اتجاه. الناس يسألونني ويتكلمون معي، وأنا عاجز تماما عن النطق. بقيت أدور في مكاني، حتى عثر علي رجل يعرفني وحملني بسيارته إلى المستشفى». لغاية اليوم لا يستطيع سمير الاقتراب من مكان الانفجار يقول: «لا يمكنني أن أمر من هناك، أو أن استعيد ما رأيت. الصدمة كانت مروعة».

القصص كثيرة، ومؤثرة. شهناز التي تسكن في شارع قريب وكان زوجها المسن يصلي في مسجد السلام لحظة انفجار السيارة المفخخة تقول: «هجم الناس صوب المسجد، يريدون البحث عن أهلهم، وأنا بينهم. شاهدت سيارات تتفحم بداخلها أطفال، وأشلاء جثث متناثرة في كل مكان، منظر لا يمكن وصفه. لم يكن هناك مسعفون. الجرحى يحمل بعضهم بعضا وكلهم تسيل دماؤهم. أناس ينزفون يقودون سيارات ومعهم آخرون غطتهم الدماء». زوج شهناز السبعيني خرج من العناية الفائقة يوم أمس، وفي رأسه تسعون قطبة.

حكاية الطفل الذي سقط عليه باب المسجد، ثم داسه المصلون وهم يخرجون، دون أن يعوا أن ثمة روحا تحت الباب، تتردد على الألسن في طرابلس. إلى يوم أول من أمس. كان كلام عن أشلاء يتم العثور عليها على سطوح العمارات، يرعب المواطنين.

ذهب الذهول الذي خيم في الأيام الأولى، وبدأ الخوف. كل سيارة مركونة إلى جانب الطريق قد تكون قاتلة. صار عليك أن تتحدث مع أهل الحي كلما أوقفت سيارتك في مكان ما، لتخبرهم من أنت وإلى أين أنت ذاهب. يشهد اليوم الواحد تبليغات متتالية عن سيارات مشتبه فيها والقوى الأمنية تحقق، وتطمئن الناس. لا يبدو أن الإجراءات التي بدأت تتخذ لمنع ركن السيارات بجوار المساجد والكنائس والمؤسسات العامة، تريح المواطنين.

حكاية أحمد عبوس الذي كان قد أخذ حفيديه إلى البحر ومعهما ابنه الذي يعاني من شلل دماغي، ووقف في طريق العودة إلى منزله أمام مسجد التقوى ليصلي ظهر الجمعة، خرج بعد ذلك ليجدهم يشتعلون وينتشلهم جثثا محترقة متفحمة، وقد احتضن بعضهم البعض، تثير شجنا كبيرا في المدينة. أحمد عبوس، رغم مأساته الكبيرة، يشكر الله لأنه وجد جثث أطفاله وتمكن من دفنهم، ولو أشلاء محترقة ويقول: «غيري لم يعثر على أحبته. أنا حرصت أن ألفّهم بأغطية وأضع اسم كل طفل على غطائه، كي لا يضيعوا بين الجثث الكثيرة».

على مسافة قطر كيلومتر واحد حول انفجار مسجد السلام، ما تزال ورشة تنظيف الركام مستمرة، فيما الأعلام اللبنانية التي وزعها ناشطون، تأكيدا على روح الأخوة ترفرف على ما الشرفات المدمرة.

غيّر الانفجاران في طرابلس حياة الأهالي. الخروج من البيت صار يحسب له حساب. يفضل كثيرون عدم التجول من دون دواع قاهرة، مما يفسر بقاء الشوارع هادئة، واختفاء زحمة السير. كل يراقب السيارات التي تقف أمام محله أو منزله، يسأل عن كل حركة مريبة قد تثير الشك.

يقول أيمن خزندار الذي كان في حي قريب من مسجد التقوى عند حدوث الانفجار: «طرابلس كلها هرعت لتلملم الجثث. كل مواطن في المدينة، إما أصيب مباشرة، أو سقط له حبيب أو صديق أو جار، قتيلا أو جريحا. المدينة مفجوعة عن بكرة أبيها، وخائفة، من أن نكون قد دخلنا في السيناريو العراقي. لعلها مجرد بداية.. وهذا ما يرعب الناس».