سنودن يكشف «الميزانية السرية» لمجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة

«سي آي إيه» باتت أكبر وكالة تجسس أميركية بعد رفع وتيرة إنفاقها إلى 14.7 مليار دولار للعام

من (اليمين) مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي روبرت مولر ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان ومدير وكالة الأمن القومي كيث ألكسندر خلال مشاركتهم في منتدى حول الأمن الإلكتروني في نيويورك في 8 أغسطس الحالي (أ.ب)
TT

تمكنت وكالات التجسس الأميركية من بناء شبكة ضخمة لجمع المعلومات الاستخباراتية منذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، لكنها ظلت عاجزة عن تقديم المعلومات الهامة إلى الرئيس الأميركي بشأن مجموعة من التهديدات الموجهة للأمن القومي، بحسب ميزانية حكومية بالغة السرية. وترسم «الميزانية السرية» التي تقدر بنحو 52.6 مليار دولار للسنة المالية عام 2013، والتي حصلت صحيفة «واشنطن بوست» عليها من متعاقد الاستخبارات السابق إدوارد سنودن، تصورا لمشهد العمل البيروقراطي والعملياتي الذي لم يكن خاضعا للرقابة العامة. ورغم إصدار الحكومة سنويا مستوى إجماليا لإنفاق الاستخبارات منذ عام 2007، فإنها لم تكشف كيفية استخدام المال أو توظيفه ضد الأهداف التي حددها الرئيس والكونغرس.

يقدم ملخص الميزانية الذي يقع 178 صفحة للاستخبارات الوطنية تفاصيل نجاحات وإخفاقات وأهداف وكالات التجسس الـ16 التي تشكل أجهزة الاستخبارات الأميركية، التي يعمل بها 107.035 موظفا.

تتحدث الوثائق عن التكنولوجيات المتطورة، وتجنيد العملاء والعمليات الجارية. وحجبت «واشنطن بوست» بعض المعلومات بعد التشاور مع المسؤولين الأميركيين الذين أعربوا عن قلقهم إزاء المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها المصادر الاستخباراتية ووسائل جمع المعلومات.

وكتب مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر ردا على استفسارات من صحيفة «واشنطن بوست»: «لقد وضعت الولايات المتحدة استثمارات كبيرة في مجتمع الاستخبارات منذ هجمات 11 سبتمبر، تلك الفترة التي شهدت حربي العراق وأفغانستان، والربيع العربي، وانتشار تكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل، والتهديدات غير المتماثلة في مثل هذه المجالات مثل الحرب الإلكترونية».

وأضاف: «ميزانياتنا سرية كي تتمكن من تقديم نظرة فاحصة على خدمات الاستخبارات الخارجية لتحديد أولوياتنا الوطنية العليا، والقدرات والمصادر والأساليب التي تسمح لنا بالحصول على المعلومات لمواجهة التهديدات».

ومن أبرز ما جاء ضمن وثائق الميزانية:

* تصاعدت وتيرة إنفاق وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) لتجاوز كل وكالات التجسس الأخرى، لتصل إلى 14.7 مليار دولار في التمويل المطلوب لعام 2013. هذا الرقم يتجاوز بشكل كبير التقديرات الخارجية وتفوق ميزانية وكالة الأمن القومي، التي تقوم بعمليات التنصت وتعد منذ فترة طويلة أضخم وكالات المجتمع الاستخباراتي بنحو 50 في المائة.

* باشرت وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي عمليات هجومية جديدة لاختراق شبكات الكومبيوتر الخارجية لسرقة المعلومات أو لتخريب أنظمة العدو، وتبني ما تشير إليه الميزانية بـ«عمليات هجوم إلكترونية».

* قبل وقت طويل من تسريبات سنودن، أبدت أجهزة الاستخبارات الأميركية قلقا بشأن «السلوك الشاذ» الذي يمارسه موظفو الوكالات والمتعاقدون معها في الوصول إلى المواد السرية. وقد خططت وكالة الأمن القومي لإبعاد «مسربي المعلومات السرية المحتملين» من خلال إعادة التحقيق مع نحو 4000 شخص يحملون تصاريح أمنية رفيعة المستوى.

* أبدى مسؤولون في الاستخبارات الأميركية اهتماما نشطا بالأصدقاء والأعداء على حد سواء. فتصف الوثائق باكستان باعتبارها «هدفا مستعصيا على الحل»، وتحدثت عن عمليات مكافحة التجسس التي ركزت بشكل استراتيجي على أهداف ذات أولوية كالصين وروسيا وإيران وكوبا وإسرائيل. وبرغم كون الأخيرة حليفا للولايات المتحدة، فإنها تملك تاريخا من محاولات التجسس ضد الولايات المتحدة.

* لا تزال وكالات الاستخبارات تركز بالكلمات والأفعال والمال على الإرهاب باعتباره أخطر تهديد للأمن القومي، وأدرج على رأس خمسة «أهداف مهمة». ويعمل في مكافحة الإرهاب واحد من بين أربعة أعضاء في القوى العاملة في مجال الاستخبارات والذي يستحوذ على ثلث إنفاق برنامج الاستخبارات.

* حكومات إيران والصين وروسيا من الصعب اختراقها، لكن كوريا الشمالية قد تكون الأكثر غموضا. هناك خمس ثغرات «حرجة» في الاستخبارات الأميركية حول البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، وهناك أيضا محللون لا يعرفون شيئا تقريبا عن نوايا الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ - أون.

يمثل التقرير المعروف رسميا باسم تبرير الميزانية في الكونغرس لبرنامج الاستخبارات الوطنية، والذي يعد «سريا للغاية»، مستويات الإنفاق التي اقترحت على لجنتي الاستخبارات بمجلسي النواب والشيوخ في فبراير (شباط) 2012. وربما أجرى الكونغرس تغييرات قبل بدء السنة المالية في الأول من أكتوبر (تشرين الأول). ومن المتوقع الإعلان عن الرقم الإجمالي للإنفاق الفعلي بعد انتهاء السنة المالية في 30 سبتمبر.

تتحدث الوثيقة عن مجموعة من وكالات التجسس التي تتعقب الملايين من أهداف المراقبة والقيام بالعمليات التي تشمل مئات من الضربات القاتلة، والتي يتم تنظيمها وفق خمس أولويات هي: مكافحة الإرهاب، ووقف انتشار الأسلحة غير التقليدية النووية الأخرى، وتحذير قادة الولايات المتحدة بشأن الأحداث الحاسمة في الخارج، ومكافحة التجسس الخارجي، والقيام بعمليات إلكترونية.

وفي مقدمة التقرير، قال كلابر إن التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة تتحدى افتراضا التصنيفات المعروفة. وحذر من «الخيارات الصعبة» على اعتبار أن مجتمع الاستخبارات، الذي يشار إليه أحيانا «آي سي» اختصارا، يسعى لكبح جماح الإنفاق بعد عقد من الزيادات في الميزانية. ويتوقع مقترح الميزانية الحالي أن يظل مستوى الإنفاق قريبا من المستوى الحالي خلال عام 2017 وأن يصمد في وجه المطالب بإحداث تخفيضات كبيرة. يوفر الملخص نظرة مفصلة حول كيفية إعادة تشكيل لأجهزة الاستخبارات الأميركية نتيجة لضخ قدر هائل من الموارد عقب هجمات 2001، حيث أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 500 مليار دولار على الاستخبارات خلال تلك الفترة، وهي مصاريف يقول مسؤولون أميركيون إنها نجحت في تحقيق هدفها الرئيسي: منع هجوم إرهابي كارثي آخر في الولايات المتحدة.

كانت النتيجة إمبراطورية تجسس تملك من الموارد والقدرات ما يجعلها متقدمة على خصومها، مدعومة حتى الآن بإنفاق ينافس أو يفوق مستويات الإنفاق الذي شهدته ذروة الحرب الباردة. يعد رقم الميزانية الحالية المقترحة أقل بـ2.4 في المائة من الرقم المقدم في السنة المالية 2012، لكنه في المقابل يعد ضعف حجم الميزانية المقدرة عام 2001 ويزيد بنسبة 25 في المائة على ميزانية عام 2006.

البيانات التاريخية للإنفاق على الاستخبارات الأميركية غير متوافرة إلى حد كبير. ويقدر الخبراء من خلال الاستقراء أن الإنفاق على الحرب الباردة ربما بلغ ذروته في أواخر الثمانينات بقدر يكافئ 71 مليار دولار بتقديرات اليوم. تجاوز الإنفاق في دورته الأخيرة هذا المبلغ، استنادا إلى 52.6 مليار جاءت مفصلة في الوثائق التي حصلت عليها «واشنطن بوست» بالإضافة إلى 23 مليار دولار منفصلة مخصصة لبرامج الاستخبارات التي تدعم الجيش الأميركي بشكل مباشر.

ويتوقع أن يدهش موقف وكالة الاستخبارات المركزية المهيمن الخبراء الأجانب. فهي تمثل انتعاشا ملحوظا في وكالة كانت تبدو على وشك فقدان السلطة والهيبة بعد الاعتراف بالإخفاقات الاستخباراتية التي سبقت هجمات 2001 والغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003.

الزيادة في الموارد المخصصة كانت موجهة لتمويل السجون السرية للوكالة، وبرنامج الاستجواب المثير للجدل، ونشر طائرات من دون طيار مقاتلة وتوسعة هائلة الحجم في مركزها لمكافحة الإرهاب. وقد حول ذلك الوكالة من وكالة تجسس تكافح للخروج من الحرب الباردة إلى قوة شبه عسكرية.

خصصت وكالة الاستخبارات المركزية مليارات الدولارات لتجنيد وتدريب جيل جديد من ضباط الحالة، مما رفع أعداد العاملين في الوكالة من نحو 17.000 قبل عقد من الزمن إلى 21.575 هذا العام.

وتخصص ميزانية الوكالة 2.3 مليار دولار لعمليات الاستخبارات البشرية و2.5 مليار دولار لتغطية تكلفة دعم الأمن، والخدمات اللوجيستية وغيرها من احتياجات تلك البعثات في جميع أنحاء العالم. ويتم تخصيص كمية صغيرة نسبيا من هذا المبلغ، نحو 68.6 مليون دولار، لإنشاء والحفاظ على «غطاء» الهويات المزورة التي يستخدمها العملاء في الخارج.

لا توجد أي بيانات محددة حول أسطول وكالة الاستخبارات المركزية من الطائرات من دون طيار المسلحة في ملخص الميزانية، عدا إشارات لبند واسع الأبعاد لتوسع الدور شبه العسكري للوكالة، حيث تخصص أكثر من 2.6 مليار دولار لبرامج «العمل السري» التي من شأنها أن تشمل عمليات طائرات من دون طيار في باكستان واليمن، وأموالا للميليشيات في أفغانستان وأفريقيا، ومحاولات تخريب البرنامج النووي الإيراني.

تلقي الميزانية السرية للمرة الأولى الضوء على عبء الاستخبارات في حربي أفغانستان والعراق، ففي عام 2013 جرى التخطيط لأن تنفق وكالات التجسس الأميركية 4.9 مليار دولار على «عمليات الطوارئ في الخارج». وكان نصيب وكالة «سي آي إيه» نصف هذا الرقم تقريبا، وهو يأتي ضمن الميزانية العامة التي تصل إلى 14.7 مليار دولار. ومن المتوقع أن تتقلص نفقات الحرب نتيجة لسعي الولايات المتحدة لسحب قواتها من أفغانستان. وتشير الميزانية أيضا إلى أن أجهزة الاستخبارات قد خفضت عدد المتعاقدين الذين تستخدمهم على مدى السنوات الخمس الماضية بنحو 30 في المائة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»