ميانمار.. عاصمتها خالية من السكان والسيارات وقراها تنتظر نتائج الانفتاح

خطوات تدريجية لإنهاء عزلة فرضها حكم العسكر

شارع رئيسي في العاصمة خال من السيارات والمارة (صورة خاصة بـ»الشرق الأوسط»)
TT

أحيا مناصرو الحريات والديمقراطية في ميانمار يوم 8 أغسطس (آب) الماضي مرور 25 عاما على الحركة الطلابية التي انتفضت وطالبت بالإصلاح عام 1988. وقمعت الحركة حينها لكنها زرعت بذورا تعتبر بداية عملية الإصلاح التي تشهدها البلاد الآن.

ولم تأت هذه العملية بسهولة، بل جاءت بعد سنوات من القمع والاعتقالات والمعاناة، وهي أساليب لم تختف كليا بل تراجعت منذ عملية الانفتاح التي أطلقت قبل سنتين، مع نقل الحكم من الجنرالات في بدلات عسكرية إلى جنرالات متقاعدين تمهيدا لحكم مدني كلي يتطلع إليه الشعب البورمي. فالرئيس الحالي تين سين الذي تولى الرئاسة في مارس (آذار) 2011 هو جنرال متقاعد، وحكومته مشكلة بشكل رئيس من جنرالات متقاعدين إصلاحيين عليهم قيادة البلاد في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد.

وبوادر الانفتاح تظهر عند اللحظة الأولى من الوصول إلى مطار يانغون، وهو المطار الرئيس لميانمار، إذ كانت يانغون العاصمة قبل نقل العاصمة السياسية إلى مدينة ناي بي تاو الحديثة عام 2006. وبعد أن كان الحصول على تأشيرة دخول إلى ميانمار شبه مستحيل من دون إذن مسبق يستغرق أسابيع للحصول عليه، أصبح من الممكن لمن يزور البلاد أن يحصل على تأشيرة الدخول من السفارة خلال 5 أيام، أو أن يحصل عليها في المطار فورا إذا كان آتيا بغرض عمل متعلق بالتنمية الاقتصادية، وهي الأولوية المطلقة للحكومة الآن. وبعد الحصول على تأشيرة الدخول وعملية تفتيش مختصرة، يجد المسافر إلى يانغون إعلانات تجارية ضخمة ترافقه من مدرج الطائرة إلى صالة الاستقبالات في المطار.

وتحدثت «الشرق الأوسط» مع طالبين كانوا ضمن مجموعة طلاب يدرسون اللغة الإنجليزية ولغات أوروبية أخرى في كلية اللغات بيانغون جندتهم الحكومة لاستقبال المشاركين في مؤتمر «المنتدى الاقتصادي العالمي» الآسيوي الذي عقد في ميانمار وشاركت «الشرق الأوسط» فيه. وتحدث الطالبان بحماس عن ترحيبهما بالأجانب الذين أخذوا يتوافدون إلى ميانمار خلال السنتين الماضية بعد انقطاع شبه كلي عن العالم الخارجي. وقال ني نونغ، وعمره 20 عاما «نفرح باستقبال الزوار ومساعدتهم على معرفة بلدنا. نشعر بأن الكثيرين يتفاجأون هنا، إذ إن تصورهم يكون مختلفا قبل المجيء هنا». والمفاجأة عادة ما تكون بسبب شدة الترحيب الذي يلاقيه الزائر منذ اللحظة الأولى من الوصول، ممثلة بابتسامات المسؤولين في المطار وسائقي سيارات الأجرة، على الرغم من أن الغالبية العظمى لا تتحدث الإنجليزية. وأوضح زميل ني نونغ، ماونغ وعمره 20 عاما أيضا ويدرس اللغتين الإنجليزية والألمانية في كلية اللغات، أن «الحكومة طلبت منا المشاركة في استقبال الزوار لأننا نتحدث الإنجليزية، وسيكون هذا دورنا أيضا عند استضافة ألعاب جنوب شرق آسيا وقمة آسيان». وأضاف مبتسما «هذه البروفة لنا». وبالفعل، كانت استضافة ميانمار لمؤتمر «المنتدى الاقتصادي العالمي» في يونيو (حزيران) الماضي وهو المؤتمر الدولي الأول الذي عقد في ميانمار منذ 5 عقود، بمثابة بروفة للدولة من الناحية اللوجيستية والسياسية قبل استقبال الدورة الـ27 لألعاب جنوب شرقي آسيا بمشاركة رياضيين من 11 دولة في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، والأهم من ذلك ترؤسها لقمة «آسيان» (اتحاد دول جنوب شرق آسيا) العام المقبل. والمناسبات الثلاث تعتبر جزءا مهما في إخراج ميانمار من عزلتها الدولية، بالإضافة إلى زيارات قادة مثل الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إليها.

وبينما مطار يانغون يعتبر مزدحما نسبيا، ما زال الطابع الأمني المتشدد يطغى على مطار العاصمة السياسية للبلاد ناي بي تاو، فعلى الرغم من تسميته «مطار ناي بي تاو الدولي»، فإن الرحلات الدولية ممنوعة منه وإليه، بل ويجب الانتقال إلى يانغون ضمن الإجراءات الأمنية لحماية قادة البلاد في عاصمتهم المنعزلة. كما أن هناك رحلتين في الأسبوع فقط إليها، فتقليديا استخدام المطار حكر على العسكر فقط. وناي بي تاو تعني في اللغة البورمية «مسكن الملوك»، وعلى الرغم من أن تعداد سكانها الرسمي 418 ألفا فإن غالبية السكان يعيشون في قرى مجاورة للعاصمة التي توجد حواجز أمنية عند جميع مداخلها. وسكان العاصمة والقرى المحيطة بها هم من الموظفين الحكوميين والعسكر، لكن الكثير من عائلاتهم يسكنون في يانغون التي تبعد مسافة 240 ميلا عنها، إذ تفتقر العاصمة الرسمية إلى تنوع المطاعم والمدارس وغيرها من مرفقات الحياة، كما لا يوجد فيها إلا متجران كبيران.

وعند الوصول إلى العاصمة من الضروري الاتفاق المسبق مع سائق سيارة أجرة من الفندق مسبقا، إذ لا توجد سيارات أجرة في المدينة كلها، وحتى الفنادق لديها سيارات أجرة غير رسمية. كما أن التصوير في العاصمة ممنوع بشكل عام، وكتب السياحة الخاصة بميانمار تحذر الزائر من التقاط الصور فيها، خاصة أن غالبية المباني تعود للحكومة أو العسكر.

وهناك 3 مدن رئيسة في ميانمار، هي يانغون وناي بي تاو وماندلي وماولامين، بالإضافة إلى مدن تاريخية مثل باغان. وعدا ذلك توجد المئات من القرى الريفية إذ يسكن 70 في المائة من سكان ميانمار (وتعدادهم 60 مليونا) فيها. وتربط البلاد شوارع بدائية، ما عدا الطرق الرئيسة التي تربط المدن الأساسية ولكن لا تتفرع منها شوارع تربط المدن الصغرى. فعلى سبيل المثال، للوصول من العاصمة الحديثة ناي بي تاو إلى العاصمة التاريخية باغان تستغرق 4 ساعات. ومن اللافت أن الشارع الرئيس يمر بقرى عدة بين المدينتين، ولكن لا توجد فيه إشارة ضوء واحدة على مدار الساعات الأربع.

والطرق هي مؤشر واحد على عدم تطوير ميانمار التي يوجد فيها من بعض أكبر المخزونات الطبيعية للأحجار الكريمة، بالإضافة إلى الغاز والنفط والحديد وغيرها من معادن طبيعية. كل هذا التنوع الإثني والاجتماعي يجعلها من أكثر الدول ثراء من حيث الثقافة. وبعد أن كانت ميانمار منعزلة دوليا، تنتظر البلاد نتائج السياحة التي أخذت تتسع فيها. وبعد أن كانت زعيمة المعارضة أونغ سان سو تشي طالبت بمقاطعة البلاد وعدم زيارتها خلال فترة فرض الإقامة الجبرية عليها، طالبت منذ عام 2011 بزيارة بلادها. وتقول جنيفر دران، وهي شابة فرنسية انتقلت إلى ميانمار قبل بضعة أعوام لتفتح وكالة سياحية صغيرة باسم «فيونيكس» وتعتبر من الوكالات النادرة هناك، أنها اتخذت قرار الهجرة إلى ميانمار «لأنها فرصة نادرة». وأضافت لـ«الشرق الأوسط»: «هذا البلد يتمتع بمكونات نادرة، وطبيعة خلابة، ومناطق غير مكتشفة من قبل السياح منذ عقود وشعب متعطش للتواصل مع الأجانب».

لكن آثار النظام القمعي والفساد الذي استشرى في ميانمار ما زالت ظاهرة في نواح معينة في البلاد، مثل الفقر الذي يعاني منه نحو 25 في المائة من سكان ميانمار الذين يعيشون دون خط الفقر، بينما 5 في المائة من الشعب يعاني من فقر مدقع. وذلك في بلد شعبه غالبا ما يلاقي صعوبة في الحياة المعيشية رغم أنه غني في المصادر الطبيعية خاصة المصادر النفطية والأحجار الكريمة. ومنذ عام 1953 أمم حكم العسكر جميع أراضي البلاد، مما زاد من فقر المزارعين. وكان قانون «الأراضي الزراعية» عام 2011 مهما في عملية الإصلاح في ميانمار، إذ ألغى قرار التأميم لعام 1953، وأصبح من الممكن لأبناء ميانمار التملك مجددا، وبموجبهم يمكن تأجير الأراضي للأجانب، وهو أمر أساسي لتطوير الاستثمار الأجنبي في البلاد، الذي تعول عليه الحكومة.

ويتحدث أحد موظفي الأمم المتحدة الذي سكن في ميانمار منذ أربع سنوات عن المؤشرات الصغيرة التي تدل على التغييرات خلال السنتين الماضية. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «حتى ديسمبر الماضي كان أكثر شيء افتقده مشروبات (كوكاكولا)، التي كانت ممنوعة في البلاد». وكان افتتاح معمل «كوكاكولا» في مايو (أيار) الماضي حدثا انشغل به الإعلام في ميانمار والأوساط المالية والسياسية، وتوجد الإعلانات للمشروب الأميركي حول البلاد، لكن في الواقع القرى الفقيرة لم تكن على معرفة به ولم تتأثر به. كما أن سماح الحكومة بفتح خطوط الهواتف الجوالة في البلاد قبل عامين لم يساعد غالبية سكان البلاد بسبب الأسعار الباهظة لاستخدامها، ففقط 9 في المائة من سكان ميانمار لديهم هواتف جوالة، والتغطية للهواتف متقطعة في المدن الرئيسة ومعدومة في القرى. مع ذلك، تقول الشابة واي ني، وهي تدرس اللغة الإنجليزية وتعمل بفندق «تريدرز» الضخم في يانغون «إنها مرحلة مثيرة وسعيدة بالنسبة لجيلي، يمكننا أن نغير مستقبل بلدنا ونحصل على ما لم يحصل عليه آباؤنا وأمهاتنا، لذلك أشعر بالتفاؤل رغم المصاعب». وربما أبرز هذه المصاعب الاقتتال الطائفي المستمر في ميانمار على الرغم من أنه لا يظهر في المدن الرئيسة، وتحاول الحكومة إظهاره بأنه أمر لن يعرقل مسيرة الإصلاح في البلاد. وهذا سيكون التحدي الأكبر لميانمار في الفترة المقبلة.