الصحافة في ميانمار.. الرقابة الرسمية اختفت بين ليلة وضحاها

مدير معهد الإعلام لـ «الشرق الأوسط» : لا نعلم ما هو مسموح فلا نسأل.. وهذه الحال تنطبق على جوانب كثيرة من البلاد

مدخل معهد الإعلام في منطقة مزدحمة غرب يانغون.. وفي الإطار يي نينونغ مدير المعهد
TT

عندما يتحدث الناشطون في ميانمار عن عملية الانفتاح السياسي التي انطلقت عام 2010، لا تمر إلا بضع دقائق قبل أن يشيروا إلى الانفتاح المفاجئ وغير المتوقع الذي يشهده الوسط الإعلامي في البلاد. وخلال العقود الخمسة الماضية، كانت كل مادة منشورة في البلاد تخضع لرقابة مسبقة، أي لا يمكن نشرها إلى بعد موافقة الرقيب عليها بموجب قانون الطباعة والنشر لعام 1962، ولهذا السبب اختفت الصحف اليومية تماشيا مع رغبة وجهود الحكام العسكريين بفرض رقابة كلية على الأخبار ولفرض طوق على المعلومات التي تصل إلى شعبهم. ولكن ضمن الانفتاح السياسي الذي يقوده الرئيس الحالي لميانمار، الجنرال السابق تين سين، تغير المشهد الإعلامي بطريقة ملحوظة.

وزارت «الشرق الأوسط» «معهد ميانمار» للإعلام للتعرف على كيفية تطوير الإعلام ليكون عاملا أساسيا في المسيرة الطويلة لإرساء نظام أقل قمعا وبدأت عجلة التغيير تدور فيه ومحاسبة المسؤولين للالتزام بهذا المسار في ميانمار.

الوصول إلى معهد الإعلام ليس سهلا، حيث يقع في منطقة مزدحمة غرب يانغون، تعتبر «مركزا تجاريا» في البلاد، وتشهد كثافة سكانية. ويزداد الازدحام في فصل الأمطار، وهو بين شهري مايو (أيار) وأكتوبر (تشرين الأول)، حيث موجة مطر شديدة لدقائق قليلة تستطيع أن تغرق شوارع المنطقة وتعطل السير لساعات. وعند الوصول إلى معهد الإعلام، لا توجد لافتة خارج المبنى تشير إلى وجود المعهد، إذ حتى اليوم وجوده غير مرخص في البلاد. ويقول مدير المعهد يي نينونغ: «أعتذر عن صعوبة العثور على المعهد، ولكن لا نستطيع أن نعلق يافطة تعلن عن وجودنا لأننا ما زلنا نعمل بشكل غير مرخص». وأضاف مبتسما: «يعلمون أننا هنا ولكن لا يريدون أن يكون هذا الوجود قانونيا كي يستطيعوا إغلاق المعهد وإلغاء عملنا في أي وقت يشاءون».

وضع المعهد المتأرجح بين القانون والسياسة دليل على الوضع الذي تعيشه ميانمار، حالة من الضبابية المعتمدة في فترة انتقالية متقلبة. ويقول يي نينونغ: «نعمل من دون ترخيص رسمي، فيمكن لهم أن يقرروا في أي لحظة أننا غير مرغوب فينا، ولا يوجد قانون يحمينا.. وهذه سياسة لا تنطبق فقط على الإعلام، بل على البلد كله، نسير بين المسموح والممنوع على أمل عدم التورط».

ومعهد الإعلام يقع على الطابق الرابع من عمارة متواضعة، الوصول إليه عبر سلالم ضيقة ومن دون إنارة. ويتمتع المعهد، المكون من صالتين متجاورتين، بالكهرباء النادرة في البلاد، ولكن عندما ينقطع التيار الكهربائي الحكومي لا يوجد مولد خاص تعوضه، لذا يواصل الصحافيون مناقشاتهم في الظلام، معتمدين على ما يصلهم من أشعة الشمس. كما لا يوجد له رقم هاتف أرضي ولا موقع إلكتروني، ويعتمد يي نينونغ على العلاقات الشخصية والاتصالات النادرة عبر الهاتف الجوال لجلب الطلاب والتواصل مع الآخرين. كما بات لدى المعهد صفحة على موقع «فيس بوك» يتواصل من خلاله مع بعض الإعلاميين.

ويشرح يي نينونغ الذي بقي في ميانمار ولم يغادرها مثل الكثير من رفاقه الذين اختاروا المنفى على البقاء في بلد كانت من أكثر البلاد قمعا للصحافيين، أنه كان يستمع إلى إذاعة المعارضة في المنفى لمعرفة ما يحدث في بلاده. ويتحدث يي نينونغ عن مسيرة العقد الماضي لتطوير الإعلام في البلاد وبناء قدرات صحافية في ظروف صعبة. وقال إن أول درس تلقاه لمعرفة كيفية تدريب الصحافيين جاء عبر «المركز الأميركي» في يانغون عام 2003، وحينها تعرض لمساءلة مطولة من وزارة الداخلية عن مراجعته للمركز الأميركي، فادعى أنه كان يريد تعلم الإنجليزية التي يتحدثها بطلاقة. تدرب يي نينونغ كيف يدرب صحافيين آخرين وحاول مع عدد من رفاقه تأسيس رابطة من المهتمين بنشر المعلومات لتقوية المعارضة لحكم العسكر.

والصراع من أجل حرية الرأي والإعلام لم ينته بعد في ميانمار. وهناك صراع حالي بين «مجلس إعلام بورما»، الذي أنشأته الحكومة في أكتوبر 2012 ليكون مجلسا يجمع بين الإعلاميين ونقابتهم وملاك وسائل الإعلام الخاصة وممثلين عن المجتمع المدني، وبين البرلمان حول قانون الإعلام الجديد للبلاد. وبعد أن صادق البرلمان في يوليو (تموز) الماضي على مسودة قانون جديد للإعلام احتج الصحافيون والناشطون السياسيون عليه لأنه أعاد الكثير من العقوبات على الصحافيين في حال كتبوا ما «يتحدى روح الوحدة» في البلاد، ولم تحسم المعركة حتى الآن فلم يقر القانون.

وهناك مراقبة شديدة للمواقع الإلكترونية والبريد الإلكتروني في ميانمار، وخاصة لتلك التابعة للعاملين في مجالي النشاط السياسي أو الإنساني في البلاد. وخلال 12 ساعة من الوصول إلى البلاد، تعرض البريد الإلكتروني الخاص لصحافية «الشرق الأوسط» لاختراق، جرت معالجته، ليعاد الاختراق خلال 10 ساعات. ومن بعدها، لم تصل رسائل من أي أطراف من داخل ميانمار، حتى الأجنبية، إلى البريد الإلكتروني حتى مغادرة البلاد بعد ثمانية أيام. وعند سؤال يي نينونغ عن هذه الحادثة قال إن «خرق البريد الإلكتروني بات أمرا عاديا، وقليلا ما يتخذون إجراءات ضد الصحافيين، ولكن هناك من يريد أن يضايقهم كي لا يرتاحوا في الأجواء الجديدة في البلاد.. ولتذكيرهم بأنهم دوما تحت الرقابة حتى وإن لم تكن رسمية». وأضاف: «مثل هذا المعهد نفسه، الوضع متقلب ولا توجد له حدود رسمية.. قبل سنتين لم يكن بإمكاني الحديث إليك. اليوم لم أطلب إذنا سلفا، فلا أعلم إذا كنت سأحاسب أم لا.. وأشعر بتوتر ولكن ها نحن».

وعند سؤال يي نينونغ عن كيفية تغطية النزاعات العرقية في البلاد وحالات مهاجمة المسلمين فيها، ينخفض صوته للمرة الأولى في الحديث ويبدو أكثر ترددا في الحديث عن هذه القضية. ويشرح أنها «المسألة الأكثر حساسية والتي يشعر الصحافيون بالتخويف المباشر في معالجتها».

وعلى سبيل المثال، الوصول إلى إقليم راخين، حيث وقعت غالبية الهجمات على المسلمين، يحتاج إلى موافقة رسمية مسبقة نادرا ما تصدر. كما أن نشر أخبار عن الهجمات يعرض الصحافي للمضايقة ليس فقط من السلطات، بل من المتطرفين من البوذيين الذين سرعان ما يتهمون من يكتب عن قضية المسلمين بالخيانة.

وهذا ما دفع عددا من الإعلاميين المسلمين إلى اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة موقع «فيس بوك» للتعبير عن آرائهم وتوصيل واقع ما يحدث لهم. وقالت صحافية شابة مسلمة، طلبت من «الشرق الأوسط» عدم الإشارة إلى اسمها أو مكان عملها، إن صفحة «إعلام مسلمي ميانمار» باتت نقطة تواصل أساسية للمسلمين في ميانمار ونشر أخبارهم. ولدى الصفحة 20 ألف متابع يتبادلون أخبارا عن المسلمين في البلاد، وتعتبر الصفحة المرصد الرئيسي للهجمات الأخيرة على المسلمين خلال السنتين الماضيتين. وغالبية النقاشات على الصفحة باللغة البورمية، إلا أن هناك من يتواصل باللغة الإنجليزية وخاصة الذين عادوا من المنفى. وعلى سبيل المثال يقول بريو جين، أحد المعلقين على الصفحة، إن «ما يحدث في ميانمار أمر سياسي مخفي كنزاع ديني، لا يوجد حل غير إسقاط الديكتاتورية». وهناك أيضا تواصل عبر الصفحة عن قضايا اجتماعية ومناسبات خاصة، آخرها رصد احتفالات عيد الفطر في البلاد.

ويلفت يي نينونغ إلى مسألة ربما أهم من الرقابة الرسمية، وهي الرقابة الذاتية ومعضلة مواجهتها، قائلا: «إنني عشت في ظل قيود الرقابة طول عمري، ولدت في زمن الرقابة وكنت جزءا منها. اليوم عندما أكتب أي مقالة أسأل نفسي: هل لهجتي جريئة أكثر مما يجب أن تكون عليه؟ الرقابة ما زالت في ذهني أنا حتى وإن لم تكن مفروضة من غيري».