لبنانيون هاربون من بؤس عكار المحرومة يموتون غرقا في بحر إندونيسيا

غرق 18 شخصا وعشرات المفقودين بينهم أطفال خلال رحلة لجوء غير شرعي إلى أستراليا

TT

باع حسين خضر كل ما يملك ليهرب من البؤس الذي يعيشه في بلدته قبعيت في عكار، أكثر المناطق فقرا وحرمانا في شمال لبنان، بحثا عن لقمة عيش وحياة كريمة له ولأطفاله الثمانية في أستراليا. فكان لهم الموت بالمرصاد ليبتلعهم البحر جميعا وينجو هو حاملا عقدة ذنب موتهم حتى يومه الأخير. هو الذي قال لأهله عندما طلبوا منه أن يسافر وحده ويترك أولاده في لبنان «إما أن نموت معا أو نعيش معا»، فكان قدره أن يرى موت أطفاله أمام عينيه. 60 ألف دولار أميركي احتاجت رحلة اللجوء التي لم تكتمل: حصل خضر على جزء من المبلغ عن طريق الدّين والجزء الآخر قدّمه له شقيق زوجته المهاجر في أستراليا، فكانت ثمن حياة كل أفراد العائلة على متن عبّارة ظنوا أنّها ستكون خشبة خلاصهم وإن بطريقة غير شرعية، فإذا بها تكون القدر الذي يلاحقهم ويلاحق اللبنانيين أينما حلوا.

هي فاجعة جديدة أضيفت إلى المآسي التي يعيشها اللبنانيون وتحديدا في عدد من القرى الجبلية في عكار التي عاش أبناؤها أمس حالة من الصدمة والخوف منذ ساعات الصباح إثر أنباء وصلتهم تفيد بمقتل 18 من أبنائهم بغرق عبّارة مقابل الشواطئ الإندونيسية تقل 80 شخصا، معظمهم لبنانيون من مناطق شمالية عدّة، أبرزها قبعيت وفنيدق ومشمش ومدينة طرابلس، علما أن البلدات العكارية التي يتحدر الضحايا منها تنضوي في «اتحاد بلديات جرد القيطع»، وكان بعضها قد احتفل قبل يومين بوصول التيار الكهربائي إليها.

يستعيد ناصر خضر، شقيق حسين المفجوع بموت عائلته التسعة، تفاصيل تبلغ العائلة بهذه المأساة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «فقدنا الاتصال بعائلة حسين منذ مساء الاثنين، بعد ساعات من انطلاقهم من اندونيسيا متوجهين إلى أستراليا، قبل أن نتمكن أمس صباحا من التواصل معه، ليخبرنا بغرق العبارة ووفاة معظم من كانوا على متنها».

ويشير إلى أن شقيقه «فقد كل عائلته فيما يرقد في المستشفى، بعد أن تم إعلامه بانتشال جثث كل من زوجته واثنتين من بناته». وعند الاستفسار من ناصر عن الأسباب التي أدّت بحسين إلى اختيار الهجرة غير الشرعية، يجيب بحسرة: «ضاقت به الدنيا ولم يبق أمامه إلا هذا الخيار بعدما عجز حتى عن تأمين أقساط أولاده المدرسية. كان يريد أن يؤمن حياة أفضل لأطفاله. باع الحافلة التي كان يعمل عليها لنقل الرمل والبحص والمولد الكهربائي الذي يملكه ودفع ثمنهما إضافة إلى مساعدة من العائلة وأهل زوجته الذين شجعوه على المغادرة».

وكان حسين قد غادر وعائلته لبنان في 17 أغسطس (آب) الماضي، بعدما دفعوا المال لأحد المهربين غير الشرعيين، من الجنسية العراقية، ويدعى «أبو صالح».

ولفت ناصر إلى أنّ «السفينة التي غرقت لم تكن بحالة جيدة وهو الأمر الذي جعل الركاب يرفضون السفر فيها في بادئ الأمر، لكن قيل لهم إنهم سينتقلون إلى سفينة أخرى بعد ساعات».

وباتت ظاهرة الهجرة غير الشرعية، لا سيما إلى أستراليا، حيث تتبع السلطات نظام منح اللجوء لكل من يصل إليها على متن قارب، الوسيلة الوحيدة التي تلجأ إليها عائلات من عكار في الفترة الأخيرة، هربا من الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشونها. هذا الأمر يؤكده نائب المنطقة في «تيار المستقبل» معين المرعبي، بقوله لـ«الشرق الأوسط»: «في منطقة تفتقد إلى أدنى متطلبات العيش من الماء والكهرباء ومستشفى ويعيش 70 في المائة من أبنائها تحت خط الفقر ولا يتجاوز مدخولهم الشهري 200 دولار أميركي، باتت الهجرة الحلم الوحيد الذي يطمحون إليه». ويشير إلى أنّ «معظم عائلات المنطقة لا تزال تعمل في تربية المواشي في ظل غياب أي مشاريع تنموية تؤمن فرص عمل لشبابها الذين يعيشون حياة الذل والمهانة»، مؤكّدا أن «ظاهرة الهجرة غير الشرعية ليست جديدة في عكار بل هي لم تتوقّف منذ سنوات طويلة وإن بنسب مختلفة».

وفي حين بقيت المعلومات بشأن مصير المهاجرين ولا سيما اللبنانيين الذين ينتمون إلى عائلات خضر وحمزة وعثمان وأسعد وجديد غير واضحة حتى ساعات بعد الظهر، أشارت المعلومات الأولية أمس عن العثور على 20 جثة معظمهم من الأطفال وإنقاذ 25 آخرين. وبذلت السلطات الرسمية اللبنانية جهودا على أكثر من مستوى، في سعي للتواصل مع الجهات المعنية في إندونيسيا وأستراليا، والعمل للبحث عن جثث الضحايا ونقلهم إلى لبنان. وأوعز الرئيس اللبناني ميشال سليمان أمس إلى المعنيين بمتابعة الموضوع واتخاذ الإجراءات اللازمة، فيما طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من أمين عام وزارة الخارجية والمغتربين السفير وفيق رحيمي إجراء الاتصالات الدبلوماسية اللازمة، مشددا على «سرعة التواصل بالسلطات الإندونيسيّة لكشف ملابسات الموضوع وتحديد مصير اللبنانيين وتأمين سلامة الناجين منهم».

وطلب من القائمة بأعمال السفارة اللبنانية في إندونيسيا جوانا قزي التوجه إلى المرفأ الذي انطلقت منه الباخرة لمواكبة عمليات الإنقاذ ميدانيا والاهتمام باللبنانيين الناجين، مشددا على «ضرورة متابعة موضوع التحقيقات في الحادثة مع السلطات الإندونيسية المختصة».

وكانت قزي قد أعلنت أنّ غرق المركب حصل نتيجة عطل طرأ عليه في بحر سيانجور في إندونيسيا، على بعد 12 ساعة تقريبا من الشواطئ الإندونيسية وتمكنت وكالة الغوث الإندونيسية من انتشال 15 جثة من جنسيات مختلفة حتى الآن، لافتة إلى أن «المسافة الفاصلة بين الشاطئ ومكان غرق المركب تعيق عمليات الإنقاذ».