ملك المغرب: الانتداب البرلماني ليس ريعا سياسيا.. وقضية الصحراء مسؤولية الجميع

قال إن الأمور لم تحسم بعد ومناورات خصوم وحدة تراب بلده لن تتوقف

الملك محمد السادس يؤدي صلاة الجمعة في احد مساجد الرباط امس (ماب)
TT

قال العاهل المغربي الملك محمد السادس إن قضية الصحراء عرفت خلال هذه السنة تحديات كبيرة: «تمكنا من رفعها، بفضل قوة موقفنا، وعدالة قضيتنا»، بيد أنه أوضح أنه لا ينبغي الاكتفاء بكسب هذه المعركة، والإفراط في التفاؤل.

وذكر الملك محمد السادس، في خطاب ألقاه أمس أمام نواب الأمة بمناسبة افتتاحه الدورة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية التاسعة، أنه جرت ملاحظة بعض الاختلالات «في التعامل مع قضيتنا المصيرية الأولى، رغم التحركات الجادة التي يقوم بها بعض البرلمانيين. إلا أنها تظل غير كافية، وهو ما من شأنه تشجيع خصومنا على الرفع من مستوى مناوراتهم لإلحاق الضرر ببلدنا».

وقال العاهل المغربي إن أغلب الفاعلين لا يتعبأون بقوة، إلا إذا كان هناك خطر محدق يهدد وحدة تراب البلاد «وكأنهم ينتظرون الإشارة للقيام بأي تحرك»، مشيرا إلى أن قضية الصحراء ليست فقط مسؤولية ملك البلاد، وإنما هي أيضا قضية الجميع: مؤسسات الدولة والبرلمان، والمجالس المنتخبة، وكافة الفعاليات السياسية والنقابية والاقتصادية، وهيئات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، وجميع المواطنين.

وذكر الملك محمد السادس بأن مصدر قوة بلاده في الدفاع عن الصحراء يكمن في إجماع كل مكونات الشعب المغربي حول مقدساته.

ولم يخف العاهل المغربي، الذي عرف بصراحته المعهودة، أن الوضع صعب، والأمور لم تحسم بعد، وأن مناورات خصوم وحدة تراب بلاده لن تتوقف، مما قد يضع قضية الصحراء أمام تطورات حاسمة.

ودعا الملك محمد السادس الجميع في بلاده إلى التعبئة القوية واليقظة المستمرة، والتحرك الفعال، على الصعيدين الداخلي والخارجي، للتصدي لأعداء الوطن أينما كانوا، وللأساليب غير المشروعة التي ينهجونها. وقال: إنه أمام هذا الوضع أصبح من الضروري على البرلمان بلورة مخطط عمل متكامل وناجع، يعتمد جميع آليات العمل البرلماني، لمواصلة الدفاع عن وحدة تراب المغرب، بعيدا عن خلافات الأغلبية والمعارضة، بل لا ينبغي أن تكون رهينة الظرفيات والحسابات السياسية.

وأضاف أنه يتعين في نفس الإطار على أعضاء البرلمان والمجالس المنتخبة، المحلية والجهوية، وخاصة في الأقاليم الجنوبية (الصحراء)، تحمل مسؤولياتهم كاملة، بصفتهم ممثلين لسكان المنطقة، والقيام بواجبهم في التصدي لأعداء الوطن.

وأوضح الملك محمد السادس أنه بصفته الممثل الأسمى للدولة ورمز وحدة الأمة، فإنه لن يدخر أي جهد، على جميع المستويات، لصيانة الوحدة الترابية للمملكة والحفاظ على سيادتها واستقرارها، في ظل إجماع الشعب المغربي الوفي، وتضافر جهود كل مكوناته، مشيرا إلى أنه تربى على حب الوطن، وكان شاهدا، كجميع المغاربة، رغم صغر سنه آنذاك، على جو التعبئة، وروح الوطنية العالية، التي ميزت استرجاع أقاليم الصحراء، بفضل «المسيرة الخضراء المظفرة، وعبقرية مبدعها والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، وهي الروح التي يجب أن تلهم كل تحركاتنا».

وجدد العاهل المغربي التأكيد على أنه سيظل في مقدمة المدافعين عن وحدة تراب المغرب، وقائدا لمسيرات التنمية والتقدم والرخاء، في ظل الوحدة والأمن والاستقرار، والإجماع الوطني الراسخ.

على صعيد آخر، قال ملك المغرب إن الانتداب البرلماني، هو تمثيل للأمة، ومهمة وطنية كبرى، وليس ريعا سياسيا. ودعا نواب الأمة إلى استشعار جسامة هذه الأمانة العظمى، التي تستوجب التفاني ونكران الذات، والتحلي بروح الوطنية الصادقة، والمسؤولية العالية في النهوض بمهامهم.

وخاطب العاهل المغربي نواب الأمة قائلا: «لا يخفى عليكم أن الولاية التشريعية الحالية، تعد ولاية تأسيسية، لوجوب إقرار جميع القوانين التنظيمية خلالها».

وأوصى النواب والمستشارين بضرورة اعتماد روح التوافق الوطني، ونفس المنهجية التشاركية الواسعة، التي ميزت إعداد الدستور، خلال بلورة وإقرار هذه القوانين التنظيمية، ودعاهم لتحمل مسؤولياتكم كاملة، في القيام بمهامهم التشريعية، لأن ما يهمنا، يقول العاهل المغربي، ليس فقط عدد القوانين، التي تجري المصادقة عليها، بل الأهم من ذلك هو الجودة التشريعية لهذه القوانين.

ودعا العاهل المغربي النواب والمستشارين أيضا لإخراج النظام الخاص بالمعارضة البرلمانية، لتمكينها من النهوض بمهامها، في مراقبة العمل الحكومي، والقيام بالنقد البناء، وتقديم الاقتراحات والبدائل الواقعية، بما يخدم المصالح العليا للوطن.كما شدد على ضرورة اعتماد الحوار البناء، والتعاون الوثيق والمتوازن، بين البرلمان والحكومة، في إطار احترام مبدأ فصل السلطات، بما يضمن ممارسة سياسية سليمة، تقوم على النجاعة والتناسق، والاستقرار المؤسسي، بعيدا عن تحويل قبة البرلمان إلى حلبة للمصارعة السياسية.

وتطرق ملك المغرب أيضا إلى الانتداب الجماعي المحلي أو الجهوي (البلديات)، الذي يكتسب أهمية أكبر، في الواقع السياسي الوطني، لكونه يرتبط بالمعيش اليومي للمواطنين، الذين يختارون الأشخاص والأحزاب الذين يتولون تدبير قضاياهم اليومية، وقال: إن البلديات هي المسؤولة عن تدبير الخدمات الأساسية، التي يحتاجها المواطن كل يوم.أما الحكومة، فتقوم بوضع السياسات العمومية، والمخططات القطاعية، وتعمل على تطبيقيها، مشيرا إلى أن الوزير ليس مسؤولا عن توفير الماء والكهرباء والنقل العمومي، أو عن نظافة البلدية أو الحي أو المدينة، وجودة الطرق بها. بل إن المنتخبين المحليين هم المسؤولون عن هذه الخدمات العمومية، في نطاق دوائرهم الانتخابية، أمام السكان الذين صوتوا عليهم.

ولاحظ العاهل المغربي وجود تفاوت كبير في مستويات تدبير الشأن المحلي والجهوي، وقال: إنه إذا كانت كثير من البلديات، تتمتع بنوع من التسيير المعقول، فإن هناك، مع الأسف، بعض البلديات تعاني اختلالات في التدبير، من قبل هيئاتها المنتخبة، مستحضرا المشاكل التي تعيشها بعض المدن مثل الدار البيضاء، التي أشار ملك المغرب إلى أنه يعرفها جيدا، وتربطه بأهلها مشاعر عاطفية من المحبة والوفاء، التي يكنها لجميع المغاربة.

وفي سياق ذلك، قال العاهل المغربي إنه اعتبارا لمكانة الدار البيضاء كقاطرة للتنمية الاقتصادية، فإن هناك إرادة قوية لجعلها قطبا ماليا دوليا. إلا أنه أوضح أن تحقيق هذا المشروع الكبير لا يتم بمجرد اتخاذ قرار، أو بإنشاء بنايات ضخمة وفق أرقى التصاميم المعمارية، بل إن تحويل الدار البيضاء إلى قطب مالي دولي يتطلب، أولا وقبل كل شيء، توفير البنيات التحتية والخدماتية بمواصفات عالمية، وترسيخ قواعد الحكامة الجيدة، وإيجاد إطار قانوني ملائم وتكوين موارد بشرية ذات مؤهلات عالية واعتماد التقنيات وطرق التدبير الحديثة.

غير أن الدار البيضاء، يضيف العاهل المغربي، لا تجتمع فيها مع الأسف كل هذه المؤهلات رغم المجهودات الكبيرة على مستوى التجهيز والاستثمار، وخاصة ما يتعلق منها بالتأهيل الحضري.

وتساءل الملك محمد السادس: «لماذا لا تعرف هذه المدينة، التي هي من أغنى مدن المغرب، التقدم الملموس الذي يتطلع إليه البيضاويون والبيضاويات على غرار الكثير من المدن الأخرى؟ وهل يعقل أن تظل فضاء للتناقضات الكبرى إلى الحد الذي قد يجعلها من أضعف النماذج في مجال التدبير الترابي؟».

ووصف العاهل المغربي الدار البيضاء بأنها «مدينة التفاوتات الاجتماعية الصارخة، حيث تتعايش الفئات الغنية مع الطبقات الفقيرة. وهي مدينة الأبراج العالية وأحياء الصفيح، وهي أيضا مركز المال والأعمال والبؤس والبطالة وغيرها، فضلا عن النفايات والأوساخ التي تلوث بياضها وتشوه سمعتها».

ولخص العاهل المغربي المشكل الذي تعاني منه العاصمة الاقتصادية للبلاد في كلمة واحدة هي ضعف الحكامة. وقال: إنه رغم أن ميزانية المجلس الجماعي للدار البيضــــــاء تفوق بثلاثة إلى أربعة أضعـــــــاف تلك التي تتوفـــر عليها فاس أو مراكش مثلا، فإن المنجزات المحققـــــة بهاتين المدينتين في مجال توفير وجودة الخدمات الأســـــــاسية تتجــــــاوز بكثير ما جــــــرى إنجازه بالدار البيضاء.

وعد الملك محمد السادس أن الوضع المعقد في الدار البيضاء يتطلب تشخيصا عاجلا، يحدد أسباب الداء، وسبل الدواء. ذلك أن تقدم المدن لا يقاس فقط بعلو أبراجها، وفساحة شوارعها، وإنما يكمن بالأساس، في توفير بنيتها التحتية، ومرافقها العمومية، وجودة نمط العيش بها.

وذكر بما قاله في أول خطاب، بعد تقلده الحكم بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لسنة 1999. حيث أكد «أننا لا نملك عصا سحرية لحل جميع المشاكل. ولكننا سنواجهها بالعمل والجدية والضمير».