قراءة في القرار السعودي رفض دخول مجلس الأمن الدولي

TT

لنسمها مناورة في مباراة مصارعة يابانية، إن شئتم، ولكن ما فعلته المملكة العربية السعودية في مسألة عضويتها المتراجع عنها في مجلس الأمن الدولي يشكل مثالا كلاسيكيا لإلغاء خطوة بهدف مباغتة الخصوم.

ولنبدأ بمراجعة ما حدث.

مع أن السعودية من الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة فإنها حرصت دائما على أن تنأى بنفسها عن شغل مقعد عضوية غير دائمة في مجلس الأمن. هذا المجلس هو الهيئة الرئيسة المولجة بإقرار السياسات في المنظمة، وعضويته غير الدائمة تأتي مداورة لمدة سنتين. وكان من شأن قبول السعوديين بالمقعد الذي فازوا به إتاحة الفرصة لهم لإعطاء نكهة جديدة للنقاشات الدولية حيال الكثير من القضايا المهمة. وهنا يشار إلى أنه سبق للسعودية، في أربع مناسبات على الأقل، أن تعرّضت لضغوط من حلفائها الإقليميين للقبول بشغل مقعد في المجلس لكنها كانت ترفض، مفضلة العمل بصمت وحذر بصورة طبعت مقاربتها للقضايا الدولية.

بينما لو قبلت السعودية عضوية مجلس الأمن، فإنها كانت ستتمتع - حتما - بأفضليات كثيرة، منها بناء علاقات جيدة مع الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس، ما يفضي إلى حصولها على تأثير أكبر بداخله. مع هذا، قرّرت السعودية أن ترفض العضوية بهدف تسجيل اعتراض على شلل مجلس الأمن، ولا سيما إزاء المأساة السورية. ورد في بيان وزارة الخارجية السعودية القول إن المجلس قصّر في أداء واجباته تجاه سوريا وأزمات عالمية أخرى.

وتابع البيان «إن آليات العمل وازدواجية المعايير في المجلس حالت دون ممارسته واجباته وتحمله مسؤولياته في حفظ السلم العالمي، وبناء عليه وجدت المملكة العربية السعودية أنه ليس أمامها أي خيار غير رفض قبول عضوية المجلس إلى أن يصلح أموره ويُمنح الوسائل الكفيلة لإنجاز واجباته وممارسة مسؤولياته في المحافظة على السلم والأمن العالميين».

هذه الخطوة السعودية الأخيرة توقّعها وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل بحضوره العاطفي الغاضب في الجمعية العمومية بنيويورك خلال الشهر الماضي. وهذا الموقف من سياسي مخضرم يشتهر عنه الأعصاب الهادئة والصبر الطويل كان خير معبر عن شعور غير مسبوق بالإحباط من شلل مجلس الأمن.

الوقت لا يزال مبكرا للجزم بالتأثيرات التي ستتركها الخطوة السعودية على النقاش المتطاول في موضوع إصلاح مجلس الأمن، ذلك أنه بدأ من خلال تقرير أممي داخلي قبل أكثر من 30 سنة مضت. ثم إن الاعتراضات ليست جديدة على الأمم المتحدة. ففي عام 1971 رمى ذو الفقار علي بوتو، بغضب شديد أوراقه صارخا «خذوا أممكم المتحدة!» وغادر القاعة، بعدما تكلم مدافعا عن موقف بلاده باكستان ضد الغزو الهندي وانفصال بنغلاديش.

غير أن الجانب غير المسبوق في الاعتراض السعودي هو أن دول العالم تتوق للحصول على مقعد في مجلس الأمن. وجدول الأعمال المعد لعامي 2014 و2015 يتضمّن عددا من القضايا القريبة من مصالح المملكة.

هناك، بادئ ذي بدء الحرب الأهلية المستعرة في سوريا وما يصحبها من مآس إنسانية. وكان المجلس قد توصل إلى تفاهم على عقد مؤتمر «جنيف 2» للبحث في مخرج للمأزق السوري الراهن.

السعودية كانت أعلنت أنها ستدعم مبادرة في هذا الشأن إلا أنها ستصر على التمحيص الدقيق في التفاصيل. ولكن خطوة أمس ستعقد مهمة روسيا، الداعمة للنظام السوري، في محاولة تمويه الجوانب الأساسية في الملف المعروض على بساط البحث. وبصرف النظر عن المناورات والتقلّبات المرتقبة في الأزمة، فإن مدة رئاسة بشار الأسد الدستورية تنتهي في شهر مايو (أيار) المقبل. ومع أنه تكلم باستعلاء ومباهاة بأنه قد يرشح نفسه لفترة رئاسية أخرى، فالمرجح حاليا هو أن إجراء انتخابات ذات معنى في سوريا متعذر لبعض الوقت.

في أي حال، تجاوزت الأمور مسألة ما سيفعله الأسد وماذا سيحصل له. المسألة المركزية الآن هي إنقاذ سوريا من انهيار حقيقي يجعل منها «صومالا» جديدا على شواطئ المتوسط. فمنذ تفجر الانتفاضة السورية طالبت السعودية بانتقال سياسي من نظام فاشل إلى صيغة جديدة قادرة على حماية استقرار البلاد، وتأمين فرصة لبناء نظام يقوم بالمصالحة الوطنية. وبالنظر إلى أن الموقف السعودي يلقى الدعم من السواد الأعظم من دول جامعة الدول العربية، وتقريبا معظم جيران سوريا، فمن المؤكد أن يحمل صوت المملكة وزنا إضافيا خلال المداولات المتصلة بمستقبل سوريا.

القضية الثانية المهمة مباشرة بالنسبة للسعودية تتعلق بالنزاع الذي طال لعقود بين إيران ومجلس الأمن الدولي على برنامج إيران النووي. وراهنا ثمة تفاهم عريض على أنه إذا قيض لإيران بناء ترسانة نووية فإن هذا يعني إطلاق سباق تسلح إقليمي يستحيل توقع عواقبه وتداعياته.

على امتداد العقدين الأخيرين أصدر مجلس الأمن بالإجماع ستة قرارات تفرض على إيران التخلي عن نشاطاتها التي يمكن أن تؤدي إلى استحواذها على ترسانة نووية. غير أن سلطات طهران تجاهلت تلك القرارات ونجحت في كسب الوقت عبر تكتيكات المماطلة والتسويف و«التفاوض من أجل التفاوض».

ولكن منذ انتخاب حجة الإسلام حسن روحاني رئيسا للجمهورية الإسلامية، بدّلت إيران إيقاع نغمتها.

هل سيترجم هذا التبديل نفسه إلى التزام فعلي بالقرارات الدولية؟ لا أحد يدري الجواب عن هذا السؤال بعد. ولكن إذا كانت الجولة الأخيرة من مباحثات مجموعة الـ«خمسة زائد واحد» ستثمر اتفاقا فسيتوجب على مجلس الأمن تبني قرار جديد يلغي القرارات الستة السابقة وتحديد شروط الصفقة. إلا أن المشكلة هنا تكمن في أن آليات المجلس الحالية يمكن أن تقود إلى مأزق آخر يمنع التوصل إلى تسوية يعتد بها.

ثم، خلال دورتي 2014 و2015، سيكون على المجلس مراقبة إنهاء التدخل الأجنبي في أفغانستان، وذلك مع سحب القوة المتعددة الجنسيات التي كانت نشرت هناك عام 2001.

وأخيرا وليس آخرا هناك قضية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي التي يتوقع أن تعود إلى المجلس في وقت ما في العام المقبل. وكانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما قد ضغطت على السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية للتوصل إلى صيغة ما في غضون تسعة أشهر، أي بحدود الربيع المقبل.

إن الخطوة السعودية تأتي تذكيرا دراماتيكيا بأن النظام الدولي معطوب، ومع أن هناك عدة أفكار مطروحة لإصلاحه، فلم يتجمع قدر كاف من الشجاعة للاضطلاع بهذه المهمة الجبارة. وإذا كانت الخطوة قد ضخت جرعة واحدة من الشجاعة المفقودة والمطلوبة بشدة، فإنها ستقدم مساهمة أكبر بكثير للنظام من شغل مقعد في مجلس الأمن لمدة سنتين في مناخ منازعات خبيثة.