«داعش» تنهي ربيع الحريات الإعلامية في حلب بعد مقتل وخطف ناشطين

صحافيون يفرون إلى تركيا بعد تهديدات.. وآخرون يجمدون عملهم الإعلامي

TT

قبل مقتله بأيام، بدا محمد سعيد، مراسل «العربية» في حلب، مضطربا وقلقا، وكأنه يدرك ما ينتظره. فقد وصله تهديد مباشر من «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) بترك العمل في قناة «العربية»، رغم أنه معروف في أوساط الناشطين كصحافي بارز شارك في تغطية أخبار الثورة السورية ورافق المقاتلين في جبهات القتال وخلال المظاهرات في الأيام الأولى للحراك السلمي بريف حلب. ثم عمل مراسلا لقناة «أورينت» التي تحظى بمتابعة كبيرة في المناطق المحررة في سوريا.

وعندما سألت سعيد عما إذا كان خائفا أجاب قاطعا «ما راح نخاف.. باقيين بالبلد. شجاعتنا ما قدر عليها النظام، فمين راح يقدرلنا؟ مكملين المشوار».

لكن ثلاث رصاصات باغتت حلم سعيد بإكمال مشوار الثورة. أربعة مسلحين أطلقوا عليه النار من مسدس كاتم للصوت أثناء وجوده في محل حلاقة بمدينة حريتان بريف حلب، والتي ينشط فيها وبقوة تنظيم «داعش». وقال موقع «العربية.نت» إن مسلحين مجهولين اغتالوا الصحافي محمد سعيد في ريف حلب بمسدس كاتم للصوت، وإنه عمل مع وسائل إعلام عدة خلال الثورة وأعد عشرات التقارير المصورة والمكتوبة. وكان يخصص معظم أعماله لنقل الصورة الإنسانية في حلب مركزا على معاناة الأهالي وسوء أوضاعهم المعيشية.

كل الاتهامات وجهت على الفور لـ«داعش»، فبصمات التنظيم واضحة، ومنذ سيطرتها على ريف حلب في الأشهر الثلاثة الأخيرة تعرض عشرات الصحافيين والناشطين للخطف والتهديد المباشر. كما أن قادتها يعلنون محاربتهم لكل قنوات الإعلام «العلماني»، كما يصفونه. ويشهرون عداءهم لكل من لم ينتم ويخضع لسلطتهم ودولتهم، بدءا من منظمات الإغاثة والناشطين، ووصولا إلى بقية الفصائل الإسلامية وأهمها «جبهة النصرة»، والتي حاول زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري حل خلافاتها منذ أشهر، إلا أنهم (عناصر «داعش») تمردوا حتى على قرار الظواهري.

ودفع ذلك الكثيرين إلى التساؤل، فإذا كانت «داعش» غير قادرة على التفاهم حتى مع جبهة النصرة ومع الظواهري، فكيف ستتفاهم مع بقية الفصائل الإسلامية والجيش الحر؟ وكيف ستتفاهم مع الناشطين والصحافيين ومنظمات المجتمع المدني؟

ومثل سعيد، كان مراسل قناة «أورينت» في حلب مؤيد سلوم معجبا بالشجاعة التي تبديها مجموعات الدولة الإسلامية في اقتحام مقرات النظام السوري قبل أن يعتقل هو نفسه على يد «الدولة» بسبب عمله مع «قناة علمانية». ولكن هذه المرة اعترفت القيادات المحلية لـ«داعش» باعتقاله، لأنه أوقف عند نقطة تفتيش تابعة لها في طريق عام هو تقاطع الكاستيلو شمال حلب عندما كانت تدور اشتباكات بين مقاتلي الدولة الإسلامية وفصيل آخر تابع للجيش الحر، قبل أن يسيطر جيش النظام على معظم الطريق بعدها بأيام.

في يوم اعتقال مؤيد سلوم كان قادة الفصائل الإسلامية مجتمعين في تركيا لبحث الخلافات مع قيادة أركان الجيش الحر، ومنهم الحج مارع (عبد القادر الصالح) قائد لواء التوحيد، الفصيل الأكبر في حلب الذي ينظر إليه البعض على أنه «صمام أمان» المدينة، ونجح في توفير الحماية لسكانها من العديد من المجموعات المسلحة التي ارتكبت تجاوزات من خلال الهيئة الشرعية التي تجمعه مع فصائل إسلامية معتدلة، كما وفر «مناخا آمنا» لعمل صحافيين لعل بينهم مؤيد سلوم. إذ تمكن ومعه مجموعة من الناشطين البارزين المنتمين لمدن الريف الحلبي، مثل أبو فراس الحلبي ومأمون المارعي وصالح العنداني وأبو البشر، من نقل أخبار تلك المناطق لمعظم القنوات العربية والعالمية منذ اليوم الأول للحراك السلمي في ظل السيطرة الأمنية للنظام السوري وصولا لمعركة السيطرة على حلب برفقة لواء التوحيد الذي كان أول من اقتحم المدينة.

التقيت الحج مارع خلال اجتماع الفصائل في تركيا، وعندما سألته عن مصير مؤيد سلوم، وهو الإعلامي الذي رافق اللواء من أيام نشأته الأولى، قال إنهم يجرون اتصالات مكثفة للإفراج عنه بأسرع وقت، خاصة أن اعتقاله كان معلنا من طرف «داعش» بخلاف كل حالات الخطف الأخرى التي ينكر التنظيم صلته بها.

وبدا الحاج مارع منزعجا من سلسلة الاعتداءات الأخيرة التي طالت الصحافيين والناشطين في حلب، لكنه لم يشأ الخوض أكثر في الموضوع. ولعل المفارقة أن مؤيد سلوم لم يخف تعاطفه مع تنظيم الدولة الإسلامية في بداياته عندما كان عناصره يقاتلون النظام بشراسة ويختصون باقتحام المقرات العصية على باقي مجموعات الجيش الحر، قبل أن يتمدد نفوذ التنظيم وينفذ أجندته المتطرفة التي طالت المناطق السنية الحاضنة له في الريف الحلبي.

وقال سلوم في إحدى المرات «الكثير من شباب مدينتي عندان (كبرى مدن الريف الحلبي) منتمون لجبهة النصرة ولتنظيم الدولة، لذلك لا يمكن أن أتعرض لمضايقة منهم، ولا أريد أن نقاتل بعضنا البعض ليفرح النظام»، قبل أن تعتقله قوات «داعش» على حاجز لأنهم وجدوا في سيارته الشعار الخاص بقناة «أورينت» التي تعتبر أهم القنوات السورية المعارضة للنظام والداعمة للثورة السورية إعلاميا، لكنها «علمانية معادية للإسلام»، في نظر «داعش».

وكان آخر الذين تعرضوا للخطف على أيدي مجموعة مجهولة قبل يومين، الناشط البارز عبد الوهاب الملا (أبو صطيف) الذي عرف بانتقاداته المتكررة لتجاوزات بعض مجموعات الجيش الحر. وقال زملاء الملا إن أربعة أشخاص ترجلوا من سيارة جيب سوداء واقتحموا منزله بوسط حلب وخطفوه مع أحد ضيوفه ليلة الخميس الماضي. واشتهر الملا ببرنامجه التلفزيوني المحبب لقلوب الحلبيين (ثورة ثلاث نجوم) الذي كان يقدم معالجة ساخرة للأوضاع في حلب، منتقدا بشدة بعض الممارسات المتشددة لجماعات أصولية في حلب. ودافع في إحدى المرات عن مفهوم الدولة المدنية قائلا إنه «لا يتعارض مع الإسلام». كما ناقش في إحدى حلقاته جدوى المطالبة بالخلافة الإسلامية قبل بناء المجتمع وإقناع الناس «بالموعظة الحسنة»، بدلا من الفرض بالقوة.

ورغم التهديدات المتكررة للملا فإنه أصر على البقاء في حلب وعدم الخروج لتركيا أسوة بكثير من الناشطين والصحافيين. وعندما سألته قبل أيام من اختطافه عن جدوى البقاء في حلب في ظل الفوضى أجاب «إذا احنا طلعنا مين بده يظل؟».

التهديدات الرهيبة التي تواجه الصحافيين من جانب «داعش» وحالة الفوضى السائدة، أجبرت معظم الناشطين والعاملين مع القنوات الإعلامية على النزوح نحو تركيا التي وصلها قبل أسبوع نحو 15 ناشطا. أما من بقي في حلب فقد أعلن على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» تجميد ممارسته للعمل الصحافي مع القنوات التي لا تروق لـ«داعش».

ويفكر كثير من الناشطين والصحافيين في حال بقوا في حلب في إيجاد مقرات بديلة لعملهم في مناطق تحظى بحماية من فصائل إسلامية معتدلة خوفا من تمدد نفوذ «داعش» لمناطقهم، كما يقول الصحافيان وائل عادل وأحمد كنجو.

كل هذه الحوادث استدعت رأفت الرفاعي، مراسل أعلن تجميد عمله الصحافي، وعبد الوهاب الملا، قبل خطفه، إعلان تأسيس «اتحاد الإعلاميين في حلب» لمواجهة الانتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون هناك. وقال الرفاعي «هناك تشوه كبير طارئ على الثورة السورية يراد تغذيته من خلال إسكات الإعلام الحر الذي نشأ في المناطق المحررة في طفرة تواصلت طوال عام مضى».

واختطف أكثر من عشرة صحافيين أجانب في المناطق المحررة بسوريا خلال العام الحالي، يعتقد أن معظمهم ما زالوا على قيد الحياة، بينما توجه الاتهامات إلى «داعش» بالوقوف وراء ذلك. لكن تحذيرات انطلقت من وجوب توخي الحذر في إطلاق الاتهامات ضد «داعش» بالوقوف وراء كل حالات الخطف والاعتداءات في حلب. وينبه مراقبون إلى أن الكثير من العصابات الإجرامية التي تهدف للابتزاز والسرقة والخطف مقابل الفدية قد تستغل مناخ الخوف من «داعش» لتنفيذ اعتداءات باسمها، مشيرين إلى أن بعض حالات الخطف تبين أنها لأسباب شخصية وعداءات قديمة، بينما بعضها يهدف للسرقة فقط.