رفع «الطوارئ» يعيد المصريين لأجواء السهرات الرمضانية

استقبلوه بحذر شديد وودعوه بـ«القفشات» وخفة الدم

الحياة تعود إلى طبيعتها بعد رفع حالة الطوارئ
TT

استقبلوه بمخاوف مشوبة بالحذر، وودعوه بفرحة تشبه انقضاء شهر الصيام، وحلول عيد الفطر المبارك. فلم تكد ساعة رفع الحظر تدق رسميا أول من أمس، حتى تنفس المصريون الصعداء، ونفضوا عن كاهلهم أعباء ثلاثة أشهر من المكابدات الأمنية والاحتراب السياسي بين المعارضين والمؤيدين من أنصار الرئيس المصري السابق المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي، وصلت إلى ما يشبه حرب شوارع في أوقات كثيرة بين قوات الأمن والمتظاهرين وخلفت قتلى وجرحي من الجانبين.

تسابق المصريون في النزول للمقاهي والسهر حتى الساعات الأولى من الصباح، وشهدت الأحياء الشعبية ذات الطابع التاريخي، كحي الحسين، والسيدة زينب، وكذلك شواطئ النيل ازدحاما افتقدته طيلة أشهر الحظر، كما انتعشت ملاهي شارع الهرم بعشاق الأنس والفرفشة، واكتست أبواب كثير من المقاهي بالأعلام المصرية والشعارات المؤيدة للنظام الجديد في البلاد.

ولم تخل مظاهر الاحتفال من روح المزاح والدعابة وخفة الدم التي تميز المصريين، فكتب نشطاء بمواقع التواصل الاجتماعي يودعون الحظر «والله لسه بدري يا حظر التجوال»، على غرار الأغنية الرمضانية الشهيرة في وداع شهر الصيام «والله لسه بدري يا شهر الصيام»، وأمعن آخرون في خفة الدم بقولهم «الرئاسة تحققت من الرؤية.. شافت الهلال وفكت الحظر». ولفت أنظار الزبائن بأحد المقاهي الكبيرة بمنطقة وسط البلد نادل المقهى، وهو يلف خصره بعلم مصر ويتمايل برشاقة بصينية المشروبات على إيقاع أغنية «تسلم الأيادي» المهداة للجيش المصري ويهتف «وعندك واحد حظر وصلحه». في قلب لمصطلح المقاهي الشائع «عندك واحد شاي وصلحه». وحين سألته عن سر سعادته بادرني مازحا: «الليلة عيد يا أستاذ حالنا كان واقف كان نفسي أدبح خروف وأحظر أكل لحمته». ثم تابع «سيد» وهو شاب تجاوز عتبات العشرين «أنا متعلم حاصل على دبلوم صنايع والمقهى مصدر رزقي بعدما دخت السبع دوخات على وظيفة مناسبة».

وكعادتهم تفنن المصريون في التمرد على الحظر وكسره، كل بطريقته الخاصة، فمعظم المقاهي والمحال خاصة في المدن المترامية على أطراف العاصمة القاهرة، تعاملت مع الحظر وفق مصالحها، ومثلما يقول عادل، وهو صاحب مقهى صغير بالحي السادس بمدينة السادس من أكتوبر: في الأيام الأولى للحظر، كنت خائفا، خصوصا من مداهمة الشرطة وإغلاق المقهى، لكن مع مرور الوقت أحسست أن المسألة أمان، فظللت أفتح المقهى حسب المواعيد المعتادة، لكن بحذر شديد، وقد انعكس هذا على الزبائن أنفسهم، فكانوا قليلين، لا يطيلون المكوث على المقهى، يأخذون طلباتهم على «الطاير».

وحين سألته عن اللافتة الكبيرة المعلقة على واجهة الحديقة المتاخمة للمقهى «كل الطلبات اليوم بالنص» ضحك وهو يتابع: لطشة بسيطة فرحا برفع الحظر، وشد رجل الزبائن.. ثم أردف قائلا وهو يتبادل التهاني مصافحا أحد الزبائن «والله أنا نفسي أوزع الطلبات على الناس الليلة ببلاش.. إحنا تعبنا في الحظر. البلد كلها تعبت، ونفس الناس اللي بيتظاهروا على الفاضي والمليان يفهموا إن اللي فات مات، ويبصوا لأنفسهم ولمصلحة البلد بواقعيه».

ثم أذهلني عادل وهو يقول: «نفسي المسؤولين يفهموا إن الإنسان مش كائن سياسي ولا حزبي، ولا متعصب لعقيدة ما. الإنسان كائن اجتماعي بالأساس علشان كده لازم يهتموا به، في التعليم والثقافة والصحة لأنه أساس أي نجاح».

لم يغادرني كلام عادل صاحب المقهى وأنا أسير بشارع شهاب الشهير بحي المهندسين بالجيزة، لكن لفت نظري بائعة أطواق الفل ببشرتها السمراء الشابة وقوامها الرشيق ومظهرها الوقور، وهي تتلوى كالثعبان بين العربات، تسرق رزقها ببيع الفل لأصحاب السيارات حين تتوقف الإشارة، أخذت منها طوقا بسعر مضاعف تشجيعا لها على الكلام. قالت وهي تبتسم: «أنا مبسوطة بفك الحظر.. أقدر أقف وقتا أطول، وأقدر أبيع كمية كبيرة.. الناس بتحب الفل، خصوصا الستات.. بس أنا بكره المظاهرات.. بتوقف الحال والناس فيها ما بتحبش الفل».

ومثلما يرتبط المزاح غالبا بالمزاج الرايق لدى المصريين، جاء الحظر في عكس هذا الاتجاه، خاصة لدى قطاع معين من سائقي التاكسي الذين يفضلون العمل بالليل، حيث تخف الشوارع من الزحام والاختناقات المرورية، وهو ما يشدد عليه إبراهيم، الرجل الخمسيني الذي أقلني في رحلة العودة للبيت بعد منتصف الليل قائلا: «أنا سواق تاكسي منذ ثلاثين عاما، لكن بعد الازدحام والاختناقات المرورية، أصبحت أعمل بالليل فقط، مزاجي لم يعد يقبل العمل بالنهار.. أنا قضيت معظم مدة الحظر في البيت بلا عمل.. واليوم بعد رفع الحظر أنا أول الناس السعداء.. الشغل بالليل مريح للأعصاب، والبلد بتبقى هادية وزبون الليل ابن مزاج أيضا».

يضغط إبراهيم على مخارج الحروف وهو ينهي حديثه: «أنا بحب الجيش واحترمت الحظر.. ولو كل واحد في البلد احترم القانون.. بلدنا هتبقى من أحسن البلاد».