عائلة سورية هجرتها معركة حمص إلى قارة.. ومعركة القلمون إلى عرسال

أبو نمر يروي معاناته بعد اعتقال ابنته ثم انتحارها في السجن

TT

* لا نعرف الليل من النهار.. نصحو على صوت القنابل وننام تحت ركام المنازل لجأ آلاف السوريين خلال الأيام الثلاثة الأخيرة إلى لبنان، قادمين من منطقة القلمون، شمال غربي دمشق، تزامنا مع تصعيد المواجهات العسكرية بين القوات النظامية السورية ومقاتلي المعارضة في المنطقة واستقدام الطرفين تعزيزات إضافية. وتؤكد مصادر محلية في مدينة عرسال اللبنانية ارتفاع عدد السوريين الوافدين من بلدة قارة ومحيطها إلى نحو 20 ألفا.

وقالت مصادر محلية في بلدة عرسال البقاعية، التي تشكل نقطة الوصل بين جبال القلمون ولبنان، والمعروفة بتأييدها للمعارضة، إن وزارة الشؤون الاجتماعية أطلقت حالة الطوارئ على مستوى أجهزتها كافة، وعلى مستوى مختلف المؤسسات الدولية والمحلية العاملة في الملف، لتقديم كل الحاجات الأساسية للعائلات الوافدة.

وتعد عائلة الحاج أبو نمر، واحدة من العائلات الهاربة من «بطش» النظام السوري لمرتين، الأولى من حمص، والثانية من القلمون. فقبل نحو ثمانية أشهر، نزحت عائلة أبو نمر من حارة السباع، في مدينة حمص وسط سوريا، بعد أن اشتد القصف عليها وحوصرت المنازل والمحلات برصاص القنص وبالبراميل المتفجرة والقذائف التي أمطرتها طائرات الجيش النظامي على رؤوس أبناء هذا الحي. فلم تجد العائلة، كما حال آلاف العائلات الأخرى، إلا الهروب حلا للخلاص من جحيم فرض عليهم عيشه لنحو سنتين.

ولجأت العائلة إلى بلدة قارة في منطقة جبال القلمون بريف دمشق، مع آلاف العائلات الأخرى، بحثا عن مأوى أكثر أمانا من حمص، لكن الوضع بدأ يسوء تدريجيا خلال الأشهر الماضية، مع ترقب اندلاع معركة «القلمون الكبرى»، وصولا إلى اشتباكات الأيام الأخيرة وارتفاع حدتها في محيط بلدة قارة.. فأيقنت العائلة مجددا أنه «ما من زاوية آمنة في سوريا بعد اليوم، خصوصا بعد قرع جرس معركة القلمون، والمخاوف من مجازر جديدة لم تشهد لها سوريا مثيلا بعد»، وكان قرار أبو نمر باصطحاب أسرته إلى لبنان، بحثا عن الأمان المنشود.

وصلت العائلة إلى لبنان خلسة قبل يومين. عشرة أشخاص عبروا الحدود السورية - اللبنانية إلى جرود عرسال، بينما كانت القنابل والقذائف تحاصرهم من الجهات كافة. ويقول أبو نمر رب العائلة إن أسرته «نجت بأعجوبة»، قبل أن تستقبلها بلدية عرسال وأهالي البلدة، ومنحهم مكانا مؤقتا للراحة بعد رحلة الهروب القاسية، قبل انتقالهم أول من أمس إلى العاصمة بيروت.

ويقول أبو نمر، الموجود حاليا لدى أقارب زوجته في شارع بيروتي فقير، إنه لا انتماء سياسي له «فلم أوال النظام يوما ولا المعارضة، لأن ما يهمني تأمين لقمة عيش أولادي وتعليمهم ليصبحوا أطباء ومدرسين وأصحاب مهن محترمة». ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنه «مع اندلاع أول الاحتجاجات لم يكن يرغب بالانتفاض على النظام، لكن تجنيد حزب (البعث) ابنته عليا في صفوفه (بالقوة) كان بمثابة (قنبلة مدوية)»، على حد تعبيره.

انتهى تجنيد ابنته بانتحارها. يشرح الوالد المفجوع برحيل ابنته قبل نحو عامين تفاصيل إجبارها على الانضمام إلى «البعث» وخضوعها للتدريبات العسكرية بالقول: «دأبت المدارس السورية على عهد (الرئيس الراحل) حافظ الأسد على تدريس حصة باسم (الفتوة)، ثم توقفت بعد رحيله، لكن بعض المدارس الواقعة في مناطق سيطرة القوات النظامية عادت لتطبيقها، بحيث تأتي مدرسة بالزي العسكري وتعلم الطلاب فنون القتال والقيم الوطنية وتغسل عقولهم حول أهمية الجيش وضرورة الوفاء له ولرئيسه». ويضيف: «في كل سنة تدخل إحدى المرشدات وتختار الفتيات الأكثر ضخامة وطولا لتجنيدهن بصفوف الحزب، ومن سوء حظ ابنتي اختيارها وأربع فتيات، وإبلاغهن بأنهن سيتلقين تدريبا على حمل السلاح والقتال». وبعد عودة عليا إلى المنزل، أبلغت والدها بما حدث، فقرر منعها من الذهاب إلى المدرسة، بعد أن بات اسمها مدرجا على لوائح الحزب.

ويتابع الوالد المفجوع بغصة كبيرة: «حاولت حمايتها من خلال تهريبها إلى لبنان، لكن سائق سيارة الأجرة الذي اتفقت معه لإيصالها غدر بي وأوصلها إلى أحد قياديي حزب البعث السوري». يسترجع أبو نمر ذكريات مضى عليها نحو عامين، ويقول: «اختطفت ابنتي وبعد محاولتها التمرد سجنت، ومنعنا من زيارتها، لنعلم بعد فترة من خلال أقرباء إحدى الفتيات اللواتي كن مسجونات في الزنزانة معها، أنها قتلت نفسها بعد إقدام أحد حراس السجن على اغتصابها».

تخفي رقية، الوالدة المفجوعة دموعها، ترتشف فنجان القهوة ويدها ترتجف. تقول بحرقة إن القانون السائد في سوريا اليوم هو «قانون نفذ ثم اعترض»، متسائلة: «ما نفع الاعتراض أمام نظام ظالم لا يرحم؟!». تنقل عن جيرانها في بلدة قارة بالقلمون قولهم إن «المعركة المقبلة ستكون حاسمة»، لافتة إلى أنها «وأمهات كثيرات يتضرعن ليتمكن الجيش الحر من هزم النظام البائس الذي قتل ابنتي وأحبائي وآلاف الأطفال والأبرياء».

تستعيد الوالدة بحزن لحظات قاسية عاشتها وأسرتها منذ اندلاع الاشتباكات، وتقول: «منذ أشهر، لا نعرف الليل من النهار، نصحو على صوت القنابل وننام تحت ركام المنازل، نحاول إسعاف المصابين بما يتوفر لدينا من أدوات طبية كالقطن والمطهرات للجروح»، مضيفة بحسرة: «يا ويلاه! كم من جريح أصبح بلا رجل أو يد! بينما نكتفي بدفن القتلى في حديقة صغيرة بعد الصلاة عليهم». وتتابع بانفعال: «حتى موتانا لم يسمحوا لنا بغسلهم! لا مياه شرب ولا غذاء ولا أمان».

بدوره، يصغي الابن البكر نمر، البالغ من العمر 16 سنة، إلى أقوال والده ووالدته بصمت. لا ينطق بكلمة. ولدى السؤال عن كيفية تأمين العائلة لقوتها اليومي، كالخبز والطعام، يتبرع بالإجابة قائلا: «بات سعر رغيف الخبز 75 ليرة سورية، ومن لا يملك المال لا يستطيع شراءه»، مستعيدا شجارات كانت تحصل أمام الفرن. ويتابع: «كنا نقف في طابور طويل، والجميع يتشاجر للوقوف في الصف الأول، وغالبا ما حاول شبان الحي أخذ مكاني بالقوة».

في بيروت، تحاول العائلة اليوم التأقلم مع أجواء جديدة. «الأمان هو الأهم».. يقول الوالد الذي سيحاول بدءا من اليوم التفتيش عن عمل لتأمين قوت أطفاله. يشكر الله على نعمة سلامتهم ويأمل أن يعود قريبا إلى منزله وحارته، بعد أن يعود الأمان إلى سوريا.