بلدة عرسال.. تكافح صورة «قندهار».. وسكانها ينفون احتضان «القاعدة»

جولة ميدانية لـ «الشرق الأوسط» على مسالك التهريب غير الشرعية من لبنان إلى القلمون

عرسال تفتح ذراعيها لاحتضان عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين بينهم أطفال ونساء وشيوخ
TT

تتبدد الترجيحات المسبقة في رؤوس الزائرين لبلدة عرسال (شرق لبنان) الحدودية مع سوريا، بمجرد الوصول إليها.

الفكرة التي زرعتها تقارير إعلامية وتصريحات عن البلدة، بأنها باتت أشبه بمدينة «قندهار» الأفغانية، تختفي ملامحها عند أول حاجز للجيش اللبناني، يسأل ويدقّق بهوية المارين، وتتكشف أكثر مع مرور السيارة بشوارع مثقلة بتعب سوريين لجأوا إليها هربا من الحرب في بلادهم، وسيارات تابعة للأمم المتحدة، تعمل طواقمها على إغاثة اللاجئين. لا تخفي البلدة ارتباطها الاجتماعي والسياسي بالمعارضة السورية. علمان للثورة السورية، رسما على جدارين في أحد أزقتها، كذلك لافتتان على مدخلها، كتب عليهما «درعا» و«حلب»، يسهلان التعرف إلى الرابط بين البلدة البقاعية، وعدد غير محدود من سكان قرى سوريا في ريفي دمشق وحمص، نشأ بفعل عمليات التهريب والامتداد الجغرافي. وإلى جانب العلاقة الاقتصادية القائمة بين أبناء عرسال وجوارها السوري، بفعل تهريب المحروقات، فإن روابط الدم والمصاهرة متّنت هذا الارتباط، كما عززه التأييد المشترك للثورة السورية. لكن تلك العلاقة لم تتحول إلى «تنسيق عسكري كامل بينهما»، كما تقول مصادر محلية بارزة في القرية لـ«الشرق الأوسط»، من غير أن تنفي «وجود استثناءات لا يمكن أن تُعمّم».

صعدت عرسال إلى الضوء مع وصول المعارك العسكرية بين الجيشين النظامي والحر في الداخل السوري، إلى تخومها في ريفي دمشق وحمص، وتحديدا في القصير ثم القلمون. أفادت تقارير إعلامية كثيرة بتحول جرود عرسال، التي تحدّ البلدات السورية على مسافة 55 كيلومترا، إلى ملجأ لمقاتلي المعارضة السورية وخطوط تهريب السلاح والمقاتلين. اصطدم سكان البلدة، غير مرة، مع الجيش اللبناني، ونُفذت عمليات اعتداء على عناصر وضباط الجيش، أبرزها في وادي رافق، أسفرت عن مقتل عسكريين. أما الجيش النظامي السوري، فخرق الحدود باتجاه لبنان عدة مرات، ونفذت مروحياته وطائراته عدة غارات داخل أراضي البلدة، قيل إنها استهدفت مقاتلين سوريين معارضين وشحنات أسلحة.

تكررت الحوادث، وعزز الإعلان عن مسؤولية أحد أبنائها بإطلاق الصواريخ على الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله، في 26 مايو (أيار) الماضي، الاعتقاد بأن هذه البلدة باتت «خارجة عن القانون». وازداد التركيز على القرية، بعد تفجير سيارات مفخخة والاشتباه بأخرى قيل إنها عبرت من سوريا إلى لبنان عبر عرسال، وسهل «عرساليون» وصولها. وعليه، ارتفعت أسهم «استهداف القرية غير المبرر في الإعلام»، كما يقول نائب رئيس بلديتها أحمد الفليطي لـ«الشرق الأوسط»ن معتبرا أن «مقتل شخصين من عرسال، قبل يومين، يؤكد حجم الاستهداف الإعلامي للبلدة». ويوضح أن الشخصين، وهما قريبا رئيس البلدية علي الحجيري، «كانا وحدهما في سيارة تنقل اللاجئين من قارة بالقلمون إلى عرسال، وتوجها إلى ما وراء الحدود بعدما سمعنا نداءات استغاثة من قارة يطالب فيها أهلها بالمساعدة بإجلائهم من البلدة»، نافيا ما ذكرته تقارير عن أنهما كانا من ضمن 30 شخصا توجهوا للقتال إلى جانب المعارضة في بلدة قارة السورية.

في الوقت نفسه، يرفض الفليطي «ما تحاول بعض وسائل الإعلام تصويره عن أن عرسال باتت مرتعا لتنظيم القاعدة والمقاتلين المتشددين». وإذ ينفي إيواء بلدته لمتشددين من «القاعدة»، يعرب عن تخوفه من أن يكون «تضخيم القضية تحضيرا لضرب البلدة، وتبريرا لاعتداءات الجيش السوري المتكررة عليها». ويوضح أن البلدة «قد تضم متعاطفين مع الثورة السورية، وقد يوجد فيها، استثنائيا، مؤيدون للفكر المتشدد، لكنها ليست مرتعا للقاعدة، وليست قاعدة لتهريب السلاح إلى سوريا، بعد أن بات متوفرا وراء الحدود على نطاق واسع، بفعل سيطرة المعارضة على مستودعات للجيش النظامي».

ويستند الأهالي في نفيهم لمنطق وجود «القاعدة»، إلى خلفية البلدة العلمانية. فقد كانت عرسال معروفة في السابق، بأنها الخزان البشري للأحزاب العلمانية واليسارية في لبنان، و«قدّمت نحو مائتي شهيد في المعارك ضد إسرائيل»، وفق أحد أبناء البلدة، الذي يسأل باستغراب: «كيف يمكن أن نتحول من يساريين بخلفية علمانية إلى تكفيريين؟».

ويُستتبع هذا الدليل، برؤية أخرى، تقوم على خلفية اقتصادية. يقول عضو المجلس البلدي حافظ الحجيري لـ«الشرق الأوسط» إن أبناء البلدة «ليسوا بحاجة لينضموا إلى صفوف القاعدة، إذ كانوا يعيشون حالة من الاكتفاء نتيجة عملهم في مقالع الصخر ومناشر الحجر وقطاع النقل بالشاحنات، وهو ما عاد عليهم بأرباح كثيرة، وحسّن مدخولهم المالي، وأكفاهم بالتالي إهمال الدولة لهم».

والإهمال، يُقصد به في عرسال، حرمانها من الخدمات الأساسية، وتضاؤل حصة البلدة من الوظائف العامة. ففي البلدة البالغ عدد سكانها 37 ألف نسمة، لا يتعدى عدد الضباط في المؤسسات الأمنية والعسكرية الرسمية، الخمسة ضباط، كما يغيب منها موظفو الفئتين الأولى والثانية في الإدارات الرسمية. ويبلغ الحرمان مستوى قياسيا مع غياب وجود مستشفى حكومي في البلدة.

لا يخفي أبناء البلدة، بكافة أطيافهم، تعاطفهم مع الثورة السورية. عرفت عرسال بإيوائها اللاجئين من القصير وبلدات القلمون، كما بمبادرتها لإجلاء الجرحى السوريين إلى لبنان. يقول ناشط من البلدة لـ«الشرق الأوسط» إن «الجرحى كانوا ينقلون بالسيارات المدنية، وشاحنات تستخدم بالتهريب، إلى عرسال». لاحقا، «ومع ازدياد الخطر الأمني على الجرحى من الاختطاف، بدأنا في نقلهم بسيارات مدنية إلى منطقة الفرزل في زحلة، حيث يستلمهم الصليب الأحمر».

وتقع البلدة السنية، التي تعد الخزان البشري لتيار المستقبل في البقاع الشمالي، في محيط شيعي، بأغلبه مؤيد للنظام، ولحزب الله الذي يقاتل ضد المعارضة في سوريا. ومع ازدياد أعداد اللاجئين بشكل قياسي، اتخذت البلدية عدة إجراءات لتحمي نفسها أمنيا. في البداية، منعت وجود سوريين مسلحين داخلها، لأن البلدة تفتح ذراعيها لاحتضان النساء والأطفال والشيوخ وليس للمسلحين. ثم اتخذت قرارا آخر، قبل أيام، يقضي بمنع تجول السيارات السورية في شوارعها، بعد أن ناهز عددها الألف سيارة.

يتوجّس أهالي عرسال في الوقت الراهن من التحضير لعمل عسكري يطال البلدة. يستند هؤلاء إلى ما يسمونه «غياب الدولة وعجزها عن حماية السكان». فالبلدة التي تدفق إليها نحو 60 ألف لاجئ سوري، منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، يناوب في مركز الشرطة فيها عدد محدود جدا من العناصر. أما طرقاتها المشرعة على أكثر من خمسين معبرا حدوديا غير شرعي مع سوريا، فلا يضبطها إلا عدد محدود من نقاط الجيش اللبناني.

على مدخل وادي حميد، الذي اشتهر بقصف المروحيات السورية له، تقع آخر نقطة للجيش اللبناني. يستقبل الحاجز السوريين المقبلين من وراء الحدود، ويدقق في هوياتهم. وبموازاة الحاجز، على مسافة مئات قليلة من الأمتار، تعبر سيارات سورية إلى داخل عرسال من غير المرور عليه. تبدو المسالك غير الشرعية واضحة للعيان، وتعبر 20 كيلومترا من قمة جبل القلمون باتجاه عرسال، من غير أن تستوقفها أي نقطة أمنية لبنانية رسمية. وتسلك السيارات طرقات ترابية كثيرة فتحها أصحاب المقالع والكسارات، واستخدمت بعمليات تهريب مادة المازوت وغيرها من وإلى سوريا. ويبدو وادي حميد خاليا إلا من الشاحنات، وسيارات زراعية سوريا تنقل لاجئين من قرية سحل وبلدة قارة في القلمون إلى عرسال.

يقول حافظ الحجيري لـ«الشرق الأوسط» إن الحدود مفتوحة، منذ خروج الجيش السوري من لبنان في أبريل (نيسان) 2005. ويضيف: «كانت القوات النظامية تحكم السيطرة على ما يعرف بالمرصد، وهي سلسلة قمم جبلية، تفصل لبنان عن سوريا، وتتبع للأراضي اللبنانية، وتطل على وادي الخيل ووادي شبيب، ومناطق واسعة أخرى من جرود عرسال»، موضحا أنه «منذ انسحاب القوات السورية، لم تحل محلها إلا أعداد قليلة من نقاط حرس الحدود اللبنانية». وبعد هذه الفترة، نشطت عمليات التهريب التي كانت تصل من عرسال إلى مناطق القلمون، وهي قارة، وجراجير، وفليطا، والمعرة، ويبرود جنوبا، وذلك بالتنسيق مع قوات حرس الحدود السورية المعروفة بالهجانة، غير أن هؤلاء انسحبوا من مواقعهم في ديسمبر (كانون الأول) 2012، لتُترك الحدود مفتوحة.

وبينما يقول أهالي البلدة إن هذا التساهل الأمني «ساهم في تسهيل دخول اللاجئين، والجرحى وكذلك المقاتلين، إذا وجدوا»، يبدو أن ضبط الحدود بالنسبة للسلطات الرسمية اللبنانية، مهمة بالغة الصعوبة. وتقارب مساحة عرسال، خمسة في المائة من مساحة لبنان، وتعد من أكثر المناطق التي تتضمن جرودا، يصعب الوصول إليها في الشتاء. فإلى جانب النقص في كثير الجيش اللبناني وحرس الحدود، تشير التضاريس الجغرافية الميدانية إلى استحالة ضبط الحدود، ما يجعل الأنباء عن لجوء مقاتلين معارضين سوريين إليها، أمرا محتملا، لكنه غير مؤكد، كما يقول أبناء البلدة.

في عرسال، لا تقع العين على أي مشهد مسلح. الصورة المسبقة عن أن مسلحين ينتشرون في أزقتها، وأعتدة عسكرية مزروعة فوق سطوحها، ومقاتلين إسلاميين متشددين يستوقفون المارة على حواجزهم الطيارة... تتلاشى عند زيارتها. جرود عرسال تخفي كل شيء، حتى النفي والتأكيد، والمعلومات المتضاربة عن إيوائها مسلحين إسلاميين.