الفرنسيون حائرون حول حزم رئيسهم في الخارج وتردده في الداخل

شعبية هولاند تهوي إلى الحضيض.. والضرائب تطأ بثقلها على الجميع والوعود الانتخابية لا تتحقق

هولاند خلال حضوره توقيع عقود شراكة بين الدولة وشركة «سولفاي» قرب باريس أمس (رويترز)
TT

يتملك الفرنسيون حاليا سؤالا مفاده: كيف يمكن تفسير سرعة حزم وحسم رئيس الجمهورية فرنسوا هولاند في المسائل الخارجية، بل واعتماده خيار القوة العسكرية، بينما يغلب على تصرفه في المسائل الداخلية، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية التردد والتذبذب؟ لم ينجح أحد حتى الآن في فك طلاسم هذا «اللغز»، لكن الثابت أن الرئيس الفرنسي الذي وصل إلى قصر الإليزيه في مايو (أيار) من العام الماضي وفي جعبته إلمام محدود بالقضايا الخارجية وخفايا السياسة الدولية يتأهب لخوض حرب ثانية في أفريقيا. فقبل نحو العام (11 يناير/ كانون الثاني 2013)، لم يتردد هولاند في إرسال الفرقة الأجنبية في الجيش الفرنسي والقوات الخاصة إلى مالي لقطع الطريق على تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحركة تحرير أزواد (الطوارق) ومجموعة أنصار الدين وحركة الوحدة والجهاد في أفريقيا التي كانت تحاول «النزول» إلى العاصمة باماكو وبسط سيطرة الحركات الجهادية على مجموع الأراضي المالية التي تبلغ مساحتها 1.2 مليون كيلومتر مربع.

وبعد أقل من عام، بدأ الجيش الفرنسي، بناء على أوامر الرئيس هولاند في إرسال تعزيزات إلى جمهورية أفريقيا الوسطى التي كانت ترابط فيها فرقة من 400 رجل بموجب معاهدة دفاعية قديمة بين فرنسا ومستعمرتها السابقة. وتتوافد التعزيزات العسكرية الفرنسية من الغابون والكاميرون ومن فرنسا نفسها استعدادا للعمليات العسكرية التي ستباشرها القوات الفرنسية بانتظار صدور قرار جديد من مجلس الأمن الدولي بتحويل القوة الأفريقية الموجودة في أفريقيا الوسطى إلى قوة لـ«القبعات الزرق» تلعب القوة الفرنسية إزاءها دور قوة الدعم والمساندة. وأعلن وزير الدفاع الفرنسي جان إيفل ودريان يوم الثلاثاء الماضي أن باريس ستنشر قوة قوامها نحو ألف رجل «لمدة قصيرة لا تتجاوز الأشهر الستة بغرض فرض الأمن» الضائع في هذا البلد الذي تمزقه الحروب. وذهب نظيره وزير الخارجية لوران فابيوس إلى القول إن الغرض هو «تفادي حصول مجازر» في بلد تمزقه الحروب الأهلية والميليشيات والانقلابات وتتفكك فيه الدولة وتعجز عن حماية نفسها ومواطنيها وتكاد البلاد تغرق في حرب طائفية.

وتقول مصادر وزارة الدفاع، إن العمليات في أفريقيا الوسطى «لا علاقة لها بطبيعة العمليات في مالي». لكن في الحالتين، اختارت فرنسا أن تكون في المقدمة وأن تعول على القوة العسكرية التي كاد هولاند يستخدمها «لمعاقبة النظام في سوريا» بسبب استخدامه للسلاح الكيماوي في الغوطتين الشرقية والغربية صبيحة الثاني من أغسطس (آب) الماضي. هولاند وفريقه العسكري أعدا الخطط والأهداف للطائرات الحربية الفرنسية وكان الجميع بانتظار ساعة الصفر. غير أن الرئيس الأميركي باراك أوباما غير رأيه في اللحظة الأخيرة وفضل المرور بالكونغرس الأميركي للحصول على ضوء أخضر منه من أجل استخدام القوة الأمر الذي أثبط الخطط الفرنسية. ثم جاء التفاهم الأميركي - الروسي في اجتماع لوزيري خارجية البلدين في جنيف في الثاني من سبتمبر (أيلول) حول تدمير الترسانة الكيماوية السورية ليعيد الأولوية للعمل الدبلوماسي وينحي جانبا التدخل العسكري ما ترك الرئيس الفرنسي وحيدا.

من حسن حظ هولاند أن العملية العسكرية في مالي التي بدأتها فرنسا وحيدة قبل أن تساعدها الولايات المتحدة الأميركية وبعض شركائها الأوروبيين والأفارقة كانت ناجحة بعكس حرب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في ليبيا، حيث تسود الفوضى العارمة ويستعر العنف وعمليات الاغتيال والخطف وتغيب الدولة. هذه النزعة العسكرية لم يكن أحد يعرفها لدى فرنسوا هولاند. ولم تبرز فقط في إرسال القوات بل ظهرت من خلال الموافقة أحيانا على عمليات كوماندوز من أجل استعادة رهائن فرنسيين. ولاكتمال الصورة، يتعين التذكير بمواقف هولاند المتشددة إزاء طهران والبرنامج النووي الإيراني عندما بدت فرنسا كأنها «تزايد» على واشنطن لجهة فرض الشروط والمطالب والتشديد على الضمانات والشفافية ما أجهض مشروع اتفاق في اجتماعات جنيف السابقة قبل أن يجري التوصل إلى اتفاق مرحلي بين مجموعة الست وإيران.

بيد أن المفارقة أن حزم هولاند في الخارج يتناقض مع نزعة واضحة لديه لتأخير استحقاق القرارات الصعبة في الداخل وعدم تمكنه أحيانا من المحافظة على وحدة الرأي والقرار داخل الحكومة. وبرز التردد أخيرا في تراجع الحكومة الفرنسية عن فرض ما يسمى «ضريبة البيئة» بعد أن استقوت حركة احتجاجية غرب فرنسا وفي الحل الذي اقترحه الرئيس الفرنسي لتسوية قضية التلميذة البوسنية الأصل ليوناردا التي أمسكها رجال الأمن وهي في نزهة مدرسية مع رفاقها ووضعها وأهلها في طائرة رحلات الجميع إلى البوسنة. وبعد النقمة التي أثارها هذا التدبير وانتقادات الجمعيات المهتمة بحقوق الإنسان ومظاهرات التلاميذ الاحتجاجية، دخل هولاند على الخط ليقترح على ليوناردا ابنة الـ15 عاما العودة «وحدها» إلى الأراضي الفرنسية لاستكمال دراستها. ولقي الاقتراح الرئاسي انتقادات من كل الأطراف.

ولعل أفضل مؤشر على فقدان الفرنسيين الثقة برئيسهم تراجع شعبيته المستمر، إذ تفيد استطلاعات الرأي بأن أقل من ربع الفرنسيين ما زال يمنحه ثقته. وهذه النسبة لم يعرفها أي من رؤساء الجمهورية الخامسة الذين تعاقبوا على قصر الإليزيه منذ تأسيس الجمهورية ما دفع بعض السياسيين إلى التساؤل ما إذا كان هولاند سيستطيع البقاء في منصبه حتى انتهاء ولايته في عام 2017. بالطبع، الثقة المفقودة ليس سببها فقط طباع الرئيس، بل بالأحرى السياسة التي يتبعها، والتي يقدمها على أنها الأفضل لإخراج فرنسا من أزمتها الاقتصادية ولمعالجة العجوزات التي تعاني منها والديون المترتبة عليها. بيد أن الفرنسيين لا يرون أن الوعود التي أغدقها المرشح هولاند عليهم تحققت، لا بل إنهم بدأوا يئنون تحت وطأة الضرائب التي تنهال عليهم والتي تصيب بالدرجة الأولى الطبقة الوسطى. وهذه الطبقة هي التي ساعدت هولاند على الوصول إلى الرئاسة. كذلك فإن الفرنسيين لا يشعرون أن «التضحيات» التي يقدمونها بدأت تعطي أكلها، وبالتالي فإنهم يتوقعون أن تطلب منهم تضحيات مؤلمة جديدة.