مانديلا.. أيقونة النضال والتسامح

بدأ معركته ضد «الأبارتايد» مبكرا.. والتاريخ أنصفه بـ«نوبل» نظير مواقفه غير الانتقامية

مانديلا يلقي خطابا أمام 120 ألف مناصر لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جوهانسبورغ في 13 مارس 1990 (أ.ب)
TT

قضى نيلسون مانديلا الذي توفي، أول من أمس (27 عاما) من عمره سجينا في عهد الفصل العنصري، قبل الانطلاق في مسيرة طويلة نحو الحرية تُوجت بتوليه رئاسة جنوب أفريقيا كأول رجل أسود البشرة يتبوأ هذا المنصب، وفوزه بجائزة نوبل للسلام لقاء مواقفه غير الانتقامية مع من كان يعارضهم.

وبذلك ظل على الدوام يُنظر إليه كأيقونة للنضال ضد نظام الفصل العنصري، ثم التسامح مع رموز هذا النظام. رحل مانديلا عن 95 عاما بعدما معاناة طويلة مع الالتهاب الرئوي.

شخصت أعين العالم على مانديلا في 11 فبراير (شباط) 1990 يوم خرج بهالة من البطولة بعد قرابة ثلاثة عقود قضاها وراء القضبان لمعارضته نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) المفروض من الأقلية البيضاء في البلاد، في واحدة من أكثر الصور المؤثرة في تلك الفترة. وبعد أربع سنوات، أصبح السجين رئيسا للجمهورية، مطلقا مسيرة مصالحة وطنية في جنوب أفريقيا من خلال إعادة الاعتبار للأكثرية السوداء في البلاد، وطمأنة البيض إزاء ما يخشونه، بسبب التغيير.

وقال مانديلا عند توليه الرئاسة في عام 1994: «ندخل في عهد لبناء مجتمع يكون فيه جميع مواطني جنوب أفريقيا، السود والبيض على السواء، قادرين على السير برؤوس شامخة من دون أن يعتصر قلوبهم أي خوف، مطمئنين إلى حقهم الثابت بالكرامة الإنسانية.. أمة قوس قزح بسلام مع نفسها والعالم».

كرم معهد نوبل مانديلا وسلفه الرئيس الأبيض فريديريك دو كليرك بجائزة نوبل للسلام لعام 1993. وأوضح الأسقف الأنجليكاني ديسموند توتو الحائز أيضا جائزة نوبل للسلام، في أحد تصريحاته، أن السنوات التي أمضاها مانديلا في السجن هي التي حولته إلى شخصية ملهمة. وقال: «لقد خرج من السجن شخصا أعظم بكثير مما كان لدى دخوله. خرج شخص يتحلى بالرحمة.. رحمة كبيرة حتى تجاه مضطهديه. لقد تعلم كيف يفهم هفوات البشر وضعفهم وأن يكون أكثر سخاء في حكمه على الآخرين».

وبفضل أسلوبه الذكي في النقد الذاتي وإنسانيته الواضحة، سحر مانديلا المعروف لدى محبيه باسم «ماديبا» الجماهير. وقد تكون من أكثر اللحظات التاريخية التي سيخلدها التاريخ في مسيرة مانديلا التصالحية هي احتساؤه الشاي مع أرملة مهندس نظام الفصل العنصري هندريك فيرفورد، وأيضا عند ارتدائه قميص فريق «سبرنغبوكس» للرغبي، كعربون تقدير للفريق الذي يضم في غالبيته لاعبين بيض البشرة، بعد فوزه بكأس العالم للرغبي في عام 1995.

وُلِد مانديلا، واسمه الأصلي روليهلالا داليبونغا مانديلا، في 18 يوليو (تموز) 1918، في قرية صغيرة تدعى مفيزو تابعة لمنطقة ترانسكاي، وتعد من أفقر مناطق جنوب أفريقيا. كان والده رئيس قبيلة، وتوفي عندما كان نيلسون لا يزال صغيرا، إلا أنه انتخب مكان والده، وبدأ إعداده لتولي المنصب عندما كان صغيرا. كان لوالد مانديلا أربع زوجات و13 طفلا (أربعة أولاد وتسع بنات). نيلسون هو ابن الزوجة الثالثة زوجة فاني نوسيكيني، حيث قضى في منزلها معظم طفولته المبكرة. في سن السابعة كان مانديلا أول عضو في عائلته ذهب إلى المدرسة، حيث أعطاه مدرسه اسم «نيلسون». توفي والده عندما كان نيلسون في التاسعة من عمره، وأصبح هو معيل إخوته.

بدأ مانديلا مبكرا معارضته لنظام الحكم في جنوب أفريقيا، الذي كان بيد الأقلية البيضاء، ذلك أن الحكم كان ينكر الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأغلبية السوداء في البلاد. انضم في عام 1942 إلى المجلس الأفريقي القومي، الذي كان يدعو للدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء. كان مانديلا في البداية يدعو للمقاومة غير المسلحة ضد سياسات التمييز العنصري، لكن بعد إطلاق النار على متظاهرين عُزّل في عام 1960، وإقرار قوانين تحظر الجماعات المناهضة للعنصرية، قرر مانديلا وزعماء المجلس الأفريقي القومي فتح باب المقاومة المسلحة.

افتتح أول مؤسسة قانونية للسود في جوهانسبورغ في عام 1952، بمشاركة رفيقه الناشط أوليفر تامبو. وأصبح قائدا أعلى للجناح المسلح السري للمؤتمر الوطني الأفريقي في عام 1961، ثم خضع في العام التالي لتدريبات عسكرية في الجزائر وإثيوبيا. وبعد أكثر من عام من العمل السري، جرى اعتقال مانديلا وحكم عليه في عام 1964 بالسجن مدى الحياة خلال ما عرف بـ«محاكمة ريفونيا» حيث ألقى كلمة تحولت إلى بيان رسمي لحركة مناهضة نظام الفصل العنصري.

وقال مانديلا في هذه الكلمة: «طوال حياتي، كرست نفسي لهذا الكفاح للشعب الأفريقي. لقد حاربت سيطرة البيض وحاربت سيطرة السود. لقد دافعت عن مُثُل المجتمع الديمقراطي والحر. هذه مُثُل أنا مستعد للموت في سبيلها».

أمضى مانديلا 18 عاما في سجن على جزيرة «روبن أيلاند» قبل نقله في عام 1982 إلى سجن «بولزمور» في كيب تاون، ثم في سجن «فيكتور فيرستر» في مدينة بارل المجاورة.

ومع زيادة العقوبات الدولية على جنوب أفريقيا، جرى استبدال الرئيس المتشدد بي و. بوتا في عام 1989 بالرئيس الأكثر تصالحية فريديريك دو كليرك الذي أمر بعد عام من توليه الحكم بالإفراج عن مانديلا.

وبعد أربع سنوات، أعاد مانديلا بث الآمال في نفوس أبناء أمته، عند إدلائه بصوته في أبريل (نيسان) 1994 للمرة الأولى في حياته في مقاطعة كوازولو مسقط رأسه، حيث أسفرت أعمال عنف سبقت الانتخابات عن مقتل المئات.

وفي عام 1998، عند إحياء عيد ميلاده الثمانين، تزوج مانديلا الذي طلق ويني ماديكيزيلا مانديلا، من غراسا ماشيل أرملة الرئيس الموزمبيقي سامورا ماشيل. وبعد حرمانه من رؤية أولاده يكبرون بسبب سنوات الحبس الطويلة، أظهر مانديلا التزاما في تحسين حياة الشبان، موظِّفا الأموال في بناء مدارس في مناطق نائية. وفي سن الـ83، تم تشخيص إصابة مانديلا بمرض سرطان البروستاتا خضع بعده لعملية ناجحة.

وفي مايو (أيار) 2004، أعلن مانديلا أنه سيخفف نشاطاته العامة ليتمتع «بحياة أكثر هدوءا» مع عائلته وأصدقائه. واستدعى الصحافة إلى منزله بعد ثمانية أشهر، للإعلان عن وفاة آخر أبنائه المتبقين جراء إصابته بمرض الإيدز، وللدعوة إلى مزيد من الانفتاح في التعاطي مع هذا المرض.

لدى مانديلا ثلاث بنات، هن ماكي وزيندزي وزيناني. وفي عام 2009، أعلنت الأمم المتحدة يوم ميلاد مانديلا يوما عالميا، في أول تكريم من نوعه لشخص. ومن آخر المناسبات البارزة التي ظهر فيها مانديلا على الساحة الدولية هي مساعدته في حصول جنوب أفريقيا على حق استضافة كأس العالم لكرة القدم لعام 2010، للمرة الأولى في القارة الأفريقية.