زيارة الجميل إلى واشنطن ترشيح غير مباشر لرئاسة الجمهورية

حزبه يبقي خطوط اتصاله مفتوحة مع خصومه وحلفائه ويتمسك بـ«حياد» لبنان

TT

لم يحل احتفال حزب الكتائب اللبنانية الشهر الماضي بذكرى تأسيسه السابعة والسبعين على يد الزعيم المسيحي الراحل بيار الجميل، وإحياء ذكرى اغتيال حفيد مؤسسه وزيره الشباب بيار أمين الجميل، تزامنا مع احتفال لبنان باستقلاله السبعين، من دون تجديد الحزب آماله وتطلعاته المستقبلية، مع تقديم رئيسه، وهو الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل، الموجود في واشنطن حاليا، خطابا قرأته أوساط مراقبة على أنه خطاب ترشيح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

وإذا كان الجميل يتمتع بمواصفات يطرحها الفرقاء المسيحيون، فإن ما يميزه عن باقي المرشحين، وفق مسؤولين كتائبيين، هو إبقاؤه خطوط التواصل مفتوحة مع الفرقاء كافة، محليا وإقليميا ودوليا، وتكرار تأكيده على حياد لبنان عن أزمات المنطقة.

مسيرة الحزب الطويلة منذ تأسيسه عام 1936 التي لم تخل من إنجازات وإخفاقات واغتيالات ونفي، لا تعني وفق نائب رئيس حزب الكتائب سجعان قزي أن الحزب «يشيخ»، مشيرا إلى عوامل عدة حافظت على «قيمة» الكتائب، أبرزها «عدم حياده عن مبادئه» وإثباته قدرته على «التكيف مع التحولات والتطورات اللبنانية والشرق أوسطية».

ينطلق قزي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» من احتفال الحزب الأخير في وسط بيروت في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي حضره ممثلون عن معظم الفرقاء السياسيين باستثناء حزب الله (لم يلب الدعوة)، ووفد من السفارة الإيرانية، ليؤكد أن «الحشد الشبابي فاجأ القيادة نفسها لأننا لم نعهده منذ التسعينات».

وفي سياق عرضه لمسيرة الحزب تاريخيا، يعد قزي «الكتائب» في الفترة الأولى من مسيرتها «لعبت دورا كبيرا في إقناع المسيحيين بفكرة الكيان اللبناني المستقل عوض تطلعهم إلى فرنسا، وشاركت بفاعلية في استقلال 1943». لكن الباحث اللبناني ورئيس «الحركة اليسارية اللبنانية» منير بركات، الذي كان خلال حقبة الحرب الأهلية في موقع الخصم للكتائب انطلاقا من مسؤولياته في الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك، يقول إن «الكتائب في تلك المرحلة كانت على هامش المعادلة السياسية اللبنانية الموروثة عن الانتداب، وإن شاركت بتحقيق استقلال 1943 وكان لها دورها برفض انضمام لبنان إلى الوحدة المصرية السورية عام 1958».

وانتقل الحزب بعد انقسام 1958 إلى مرحلة أكثر فاعلية ودخل، بحسب بركات، في «صميم المعادلة اللبنانية بظل حكم الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب، واستمر الحال على ما هو عليه حتى عهد الرئيس شارل حلو». ويوضح بركات أن «الكتائب» نسجت خلال هذه المحطة علاقة قوية بالحكم من دون أن تتمتع بوضعية الحزب الحاكم، وبقيت موالية للدولة بشكل مستمر، ما ساعدها على التحول إلى حزب سياسي خاطب قاعدته الاجتماعية الواسعة. ويرى أن «تطرف حزب الكتائب في تلك المرحلة في مواجهة قوى قومية وأخرى متطرفة مناقضة للكيان اللبناني ينظر إليه على أنه كان أداء وطنيا، وإن لم يأخذ بالحسبان علاقة لبنان بمحيطه العربي».

وفي حين يتحدث قزي بإسهاب عن دخول العمل العسكري الفلسطيني إلى لبنان مع اتفاق القاهرة عام 1969، وفشل الكتائب بالتوصل مع المعنيين إلى حل سياسي يمنع وقوع «الشرخ الفلسطيني اللبناني»، ما دفعها لاحقا إلى «مرحلة تدريب شبابها وخوض الحرب الأهلية عام 1975»، يشير بركات إلى أن «الكتائب قدمت نفسها آنذاك أداة مواجهة أساسية للوجود الفلسطيني في لبنان ونجحت بتحويل خوف الأقلية المسيحية إلى إشكالية لبنانية مطروحة أمام جميع الأطراف وفي وجههم تحت عنوان (تخليص لبنان من الغرباء)، ومن ثم عمدت في ظل عجز الدولة عن حفظ المجتمع المدني، كما هو الحال مع حزب الله اليوم، إلى شد العصب المسيحي للاستيلاء على السلطة وحسم هويتها مسيحيا». وقاد تداخل هذا الواقع بالعوامل الخارجية إلى بدء معركة التقسيم وتعقيد مشهد الحرب الأهلية، الذي لعبت فيه الكتائب، وفق بركات، دورا أساسيا، وصولا إلى الحرب الإسرائيلية».

وتعد مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية مفصلية في تاريخ الكتائب، خصوصا أنها كانت شريكا أساسيا في الحرب، ويتهم مقاتلوها بإطلاق النار على بوسطة عين الرمانة في 13 أبريل (نيسان) 1975، التي تعد الشرارة الأولى لاندلاع الحرب الأهلية، لكن قزي يصر على أن «التحقيقات اللبنانية والفلسطينية أثبتت في وقت لاحق براءة الكتائب من هذه الحادثة».

وتخلل هذه المرحلة انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية قبل اغتياله عام 1982، ومن ثم انتخب شقيقه أمين الجميل رئيسا للجمهورية، وساهمت عوامل عدة بتعطيل عهده الرئاسي. وكانت الكتائب تلقت صفعة داخلية أخرى بانفصال القوات اللبنانية عنها، لتنتهي الحرب نهاية الثمانينات بنفي الجميل (1988) وعائلته إلى فرنسا لمدة 12 عاما. وضعفت الكتائب كباقي الأحزاب المسيحية، خلال سنوات الوصاية السورية على لبنان. ويقول قزي إنه «بعد اتفاق الطائف، وضعت اليد على الحزب بظل نظام أمني فاقع، وعانى من انقسامات كبرى، وانكفأت قيادات وكوادر عدة، فيما ابتعد من بقي فيه عن ثوابت الكتائب التاريخية».

وإذا كانت عودة بيار أمين الجميل إلى لبنان، وترشحه للانتخابات النيابية عام 2000 قد أعادت خلق ديناميكية جديدة في صفوف الحزب وتوحيد قيادته بعد تحقيق المصالحة الكتائبية مع فريق الكتائبي السابق كريم بقرادوني الذي تولى رئاسة الحزب بعد إبعاد آل الجميل، فإن اغتياله عام 2006 شكل صفعة جديدة للكتائب، وتلاها اغتيال النائب عن حزب الكتائب أنطوان غانم في العام التالي.

ويقول قزي إن «النهضة التي حققها بيار داخل الحزب استكملها شقيقه سامي الجميل، النائب في البرلمان اللبناني، خصوصا أنه نجح في جمع شريحة واسعة من الشباب الكتائبيين حوله، وحمل طروحات وأفكارا عصرية، وتجلى ذلك واضحا من خلال التفاف الشباب حول الكتائب في احتفال البيال الأخير».

ورغم انضمام الحزب إلى فريق «14 آذار» منذ عام 2005، فإنه حافظ على خطوط اتصاله مفتوحة مع كل الفرقاء على الساحة اللبنانية. ولم تكن مواقفه، بحسب قزي، «أسيرة موقعه في فريق 14 آذار»، علما بأن التباينات هذه تجلت في مقاربة ملفات كثيرة، أبرزها رفض الكتائب العزوف عن المشاركة في الحوار والحكومات ومقاطعة البرلمان، ورفض إدراج «ثلاثية الشعب والدولة والمقاومة» في البيانات الوزارية.

اليوم، يواجه حزب الكتائب، شأنه شأن باقي الأحزاب اللبنانية، تحديات على أكثر من مستوى، يلخصها قزي، نائب رئيس الحزب، بـ«كيفية التوفيق بين المحافظة على وحدة لبنان وعلى الدور المسيحي، وكيفية المحافظة على الدور المسيحي وتعزيز الميثاق الوطني بين المسيحيين والمسلمين». ويوضح أن «حل هذه الإشكاليات لن يحصل إلا عبر اعتماد اللامركزية الإدارية وحياد لبنان».

من جهة أخرى، لا ينكر قزي إمكانية ترشح الرئيس أمين الجميل للانتخابات الرئاسية المقبلة، بناء على «شبكة علاقاته العربية والدولية المتينة، التي يوظفها في سبيل تحصين لبنان لا ربطه بمحاور، وتواصله مع الفرقاء اللبنانيين كافة، وقاعدته الشعبية وانتمائه إلى مدرسة تجسد الوجدان المسيحي وتناضل من أجل التعايش مع المسلمين». لكن قزي يشدد على أن الجميل «لا يعيش على هاجس الترشيح؛ لأن هاجسه الكبير مصير لبنان بظل تعدد الولاءات والانقسامات وأزمات المنطقة». ويقول قزي إنه «إذا وجد أن الفرصة غير سانحة لترشحه رغم تمتعه بكل المؤهلات المطلوبة، فهو لن يتردد في تأييد شخصيات أخرى ذات كفاءة».