طرابلسيون يخلون منازلهم على إيقاع الأحداث الأمنية المتلاحقة بحثا عن الأمان

اشتباه بسيارة مفخخة بجبل محسن وأخرى في بيروت

TT

يمضي اللبنانيون يومياتهم في الأسبوعين الأخيرين على وقع الإشاعات حول الاشتباه بسيارات مفخخة، مرة في بيروت، ومرة ثانية في الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، وجديدها أمس في منطقة جبل محسن العلوية، بمدينة طرابلس شمال لبنان.

ولا يتردد لبنانيون كثيرون، بعد كل خضة أمنية، في التفكير بترك منازلهم الواقعة في مناطق حساسة أو تلك التي تشهد جولات عنف متكررة، كما هو الحال في الضاحية الجنوبية أو في طرابلس، حيث بلغ عدد جولات القتال بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة 18 جولة منذ عام 2008.

وفي موازاة الاشتباه أمس بسيارة متوقفة في محلة كورنيش المزرعة، في بيروت، تبين بعد كشف الخبير العسكري عليها وتفجير صندوقها بصاعق أحدث دويا أرعب القاطنين في الجوار، أنها خالية من المتفجرات، أقلقت إشاعات عن دخول سيارة مفخخة إلى جبل محسن سكان طرابلس، خصوصا بعد استنفار الأجهزة الأمنية وعناصر من الحزب العربي الديمقراطي للبحث عنها.

وتبين بعد البحث عن السيارة والعثور عليها أنها لا تحتوي على متفجرات، في حين ذكرت «الوكالة الوطنية للإعلام»، الرسمية في لبنان، أن «السيارة سرقت من محلة القبة في المدينة وأبلغ صاحبها الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تولت البحث عنها في المنطقة المذكورة».

وكان طرابلس عاشت نهاية الأسبوع الماضي حالة توتر على خلفية إحراق مجهولين ليلا مكتبة قيمة تعد من أبرز معالم المدينة الثقافية، يملكها كاهن أرثوذكسي وتقدر محتوياتها بأكثر من 80 ألف كتاب ومطبوعة، في حين لم تنته بعد ذيول التفجيرين اللذين استهدفا مسجدي السلام والتقوى في المدينة شهر أغسطس (آب) الماضي وما تلاهما من اشتباكات ورصاص قنص واعتداءات فردية تجعل الوضع الأمني غير مستقر كليا. واللافت أن هذا الواقع الأمني المتردي، والمستمر منذ عام 2008، دفع بكثيرين من أهالي المدينة، لا سيما المقيمين في أحياء قريبة من منطقة الاشتباكات التقليدية بين جبل محسن وباب التبانة إلى التفكير ببيع منازلهم أو الانتقال إلى منازل أخرى أكثر أمانا.

محمد، شاب ثلاثيني من طرابلس، يملك منزلا في شارع سوريا الفاصل بين جبل محسن والتبانة، لكنه قبل عام اختار ترك مدينته والموافقة على عرض عمل في إحدى دول الخليج. يقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه لم يتردد للحظة في اتخاذ قرار الهجرة بعد أن «تحولت طرابلس، المدينة الراقية بناسها وبشبابها إلى ساحة اقتتال، اقتصادها يموت ومحلاتها تقفل الأبواب بوجه روادها باكرا، وتستقبل الوافدين إليها برصاص القنص والقتل».

لا ينكر محمد أنه يشتاق بين الحين والآخر لمدينته، وهو لا يتردد في زيارتها متى سنحت له الفرصة، لكنه وبعد اندلاع جولة الاقتتال الأخيرة في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اتخذ قراره بالرحيل وعدم العودة في القريب العاجل. ويضيف: «لدي الكثير من الأحلام وأريد أن أعيش لا أن أموت في بلد بات المتطرفون فيه يحكمون ناسه ويقررون مصيرهم».

قبل إحراق مكتبة السائح، كانت عائلة نديم المسيحية تتردد في اتخاذ «القرار الصعب» بالانتقال من طرابلس، لكنها حسمت أمرها أخيرا، وباشرت عمليات البحث عن منزل جديد استعدادا للانتقال من المدينة، وتحديدا من شارع الملا، بعد أن ضاقت بهم الحياة في أزقة المدينة المحاصرة بالرايات السوداء، وفق ما يقوله نديم لـ«الشرق الأوسط»، بعد أن اختفت تدريجيا ملامح «العيش المشترك» بين الطوائف فيها. ويوضح أن «إحراق مكتبة السائح التابعة للأب سروج كان بمثابة قنبلة رفعت من نسبة التعصب الطائفي الذي ولد «تهجيرا قسريا» للأقليات المسيحية، خصوصا في منطقة المينا». ويشير إلى أن «كثيرين تركوا بيوتهم أو قرروا بيعها وعائلتي واحدة منهم، والانتقال إلى منطقة ذات أكثرية مسيحية لتجنب المشكلات».

لم يكن يتوقع نديم، الشاب العشريني، أن تمشي العائلة على خطى بعض من أقربائها وأصدقائها الذين اختاروا ترك المدينة قبل سنتين، أي منذ اشتداد المعارك على المحاور. ويقول: «انتقلت خالتي للسكن في منطقة الكورة وأصدقائي نقلوا مكان سكنهم إلى بيروت ومنهم إلى جبيل، أما أنا فاخترت ترك البلد والسفر إلى فرنسا، حيث الحلم بمستقبل جيد مسموح ولا تعيقه الأفكار المتطرفة».

بحسرة، يرى نديم أن «بعض المتطرفين لم يتركوا أمامنا سوى ترك البلاد بمن فيها، والدي يسعى إلى نقل مكان عمله إلى جبيل ووالدتي مترددة في إقفال محال القماش الذي كرست وقتا كبيرا لإنجاحه، لكن صوت الرصاص ومنظار البندقية الذي يترقب حركة المارة ليصطادهم بالتقنيص عليهم يشل الحياة في المدينة ويرعب أهلها ويقيد تحركاتهم».

لا تختلف حال علي عن محمد ونديم، لكن عائلته تركت طرابلس بعد أسبوع على التفجيرين اللذين استهدفا مسجدي التقوى والسلام وانتقلت للعيش في بيروت. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم أوافق بداية على قرار والدي وما زال لدي أمل بالعودة إلى مدينتي ومسقط رأسي طرابلس، فنحن نشعر بالغربة في بيروت وأنا أرمم حياتي من جديد وابني علاقات اجتماعية جديدة».

يصر علي على أن «أهل طرابلس ليسوا متطرفين ولا جهاديين ولا متعصبين، وهم يتحدرون من مدينة شكلت رمزا للثقافة والعيش المشترك، وفيها معالم حضارية وتراثية عمرها آلاف السنين، كما أن قلوبهم طيبة وهم أصحاب واجب». ويعد أن «بعض المسلحين يحاولون تشويه صورة الأهالي وخلق جو من التعصب والتوتر»، مبديا أسفه لأنهم «تمكنوا في بعض الأماكن من الترويج لأفكارهم المتخلفة وفرقوا أصحابا وجيرانا عن بعضهم البعض». ولا يجد إلا «التمني بأن تعود المدينة إلى سابق عهدها، لكي لا يضطر مزيد من العائلات إلى الإقدام على تهجير قسري من مدينة تربوا فيها ولم يتعد حلمهم الحدود الجغرافية لمساحتها».