مصر في غرفة الانتظار

عودة صعبة تدريجية إلى مظاهر الحياة العادية بعد الاستفتاء

TT

بين أغسطس (آب) الماضي عندما كانت المفاوضات دائرة في محاولة للخروج بحل لاعتصامي الإخوان في رابعة العدوية في مدينة نصر وميدان النهضة في الجيزة، ويناير (كانون الثاني) 2014 أقل من خمسة أشهر، بدا المشهد فيها مختلفا في مصر، قبل وبعد إجراء الاستفتاء على دستور ما سماه عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين التي أعدت المشروع بدستور الجمهورية الثالثة.

شيء تغير في مصر، ويبدو للعين واضحا حتى من الدقائق التي تحلق فيها الطائرة على ارتفاع منخفض فوق سماء العاصمة الصاخبة القاهرة قبل الهبوط في مطارها، ففي أغسطس المشهد كان فوضويا من اللحظة الأولى، عشرات إن لم يكن مئات من الذين يصوبون أشعة الليزر من منازل وساحات في السماء باتجاه الطائرة، وكأنهم يلاحقونها، رغم خطورة ذلك على الطيارين، وذلك في تصرفات غير مفهومة.

في يناير 2014 اختفى هواة مطاردة الطائرات بأشعة الليزر، لكن لا تزال حركة المسافرين أقل بكثير من مستوياتها الطبيعية قبل الاضطرابات السياسية، ومعها لا يزال قطاع السياحة يعاني، ومعه قطاع كبير من العاملين والمرتبطين به.

شيء تغير في شوارع العاصمة المزدحمة بنحو 15 مليون نسمة في مساحة جغرافية لا تتناسب مع هذا العدد خلال الأشهر الخمسة، وأحد مظاهره الواضحة هو النظافة النسبية للشوارع والميادين بما فيها ميدان التحرير الذي كان مغلقا لشهور طويلة، ثم أصبحت الحركة فيه طبيعية بدرجة كبيرة. اختفت تقريبا القمامة التي كانت تتراكم في الشوارع خلال شهور الصيف الساخنة ورافقت فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي والفترة الأولى للمرحلة الانتقالية الجديدة بعد 30 يونيو (حزيران)، وتبدو أن هناك محاولة لإشعار الناس بأن هناك تغييرا، وأن الحياة تعود إلى طبيعتها.

في أغسطس كان هناك حظر تجول ليلي، والغريب أن المصريين المولعين بالسهر والجلوس على المقاهي تقبلوا ذلك برحابة وقتها والتزموا به، وكان مشهدا اعتياديا رؤية الأصدقاء أو الندماء يتواعدون على لقاءات أكثر تبكيرا من المعتاد، وإنهاء جلستهم قبل موعد سريان حظر التجول بساعة على الأقل. اختفى ذلك وعادت المقاهي تضج بروادها حتى الساعات المبكرة من الصباح على أرصفة الشوارع، ولم تختف أحاديث السياسة التي أصبحت المادة الرئيسة للمصريين منذ يناير 2011.

لم تختف المشاكل، أو المصادمات التي تأخذ أشكالا عنيفة في أحيان في بعض المناطق مع أنصار جماعة الإخوان المسلمين التي صنفت الآن كجماعة إرهابية، لكن مظاهر التفاؤل في أحاديث الناس تبدو واضحة، لا يزال كثيرون في أحاديثهم يلومون الإخوان ويشعرون بغضب من العنف المستمر، ويبدو التفاؤل أكثر بعد نجاح تنظيم الاستفتاء على الدستور دون مشاكل كبيرة، وكان واضحا من اليوم الأول أن المزاج العام مع المضي في خطوة الدستور كأول خطوة في خريطة الطريق، تمهيدا للاستحقاقات المقبلة، أملا في عودة الاستقرار، وانتظام الحياة والاقتصاد.

لا تزال مظاهر الإجراءات الأمنية والحراسات موجودة، وإن كانت بدرجة أقل من السابق بشكل ملحوظ، على الأقل ظاهريا، ولا تزال الحواجز الكونكريتية موجودة في بعض الشوارع، وإن كانت بدرجة أقل من السابق وأهمها التي تقطع شارع القصر العيني الرئيس بما يمنع ارتباطه مباشرة بميدان التحرير.

مظاهر عديدة توحي بعودة تدريجية وإن كانت صعبة نحو عجلة الحياة العادية، لكن ما زالت القاهرة تموج بسوق الشائعات السياسية والتنظيرات التي لا تستند في بعض الأحيان إلى منطق قوي، وبعض الناس يتداولونها بثقة شديدة وبتأكيد كله ثقة لإقناع المستمع به، دون مصدر أو دليل واضح، وفي أحيان تكون مثار تداول على مواقع اجتماعية أو حتى في وسائل إعلام.

كان الشغل الشاغل في الأيام الماضية، هو الاستفتاء، ومن ذهب للإدلاء بصوته ومن لم يذهب، والأهم نسب المشاركة مقارنة باستفتاء 2012 على الدستور الذي وضع وكان مثار انتقادات خلال فترة وجود الإخوان في الحكم. رهان الحكم الانتقالي، وأعين العالم الخارجي على نسب المشاركة، ونسب الموافقة باعتبار أن هذا هو أول اختبار حقيقي عبر صناديق الاقتراع وأصوات الناخبين على شرعية حكم 30 يونيو، وكانت هناك أحاديث على أنه سيكون هناك حرص على إظهار أن أكثر من خمسين في المائة من الـ53 مليونا ممن لهم حق التصويت سيذهبون للاقتراع. وجاءت النتيجة التي أعلنت أمس، واقعية «دون تجميل» بنسبة مشاركة 38.6 في المائة وهو أعلى من رقم 32.9 في المائة الذي أعلن في استفتاء 2012، مع فارق أساسي هو أن نحو 30 في المائة من الذين ذهبوا للصناديق في 2012 قالوا «لا» بما يعكس حالة الاستقطاب التي كانت موجودة وقتها، بينما الـ20 مليونا وكسور الذين ذهبوا لاستفتاء 2014 وافقوا بأغلبية كاسحة تتعدى 98 في المائة بما يعكس المزاج العام، وكان من الملاحظ المشاركة الكثيفة للمرأة هذه المرة، بينما تدور أحاديث بعد الاستفتاء على أن مشاركة الشباب لم تكن بالنسبة الكبيرة، وهو كلام يصعب التأكد منه في ضوء عدم وجود إحصاءات أو أرقام دقيقة.

المحصلة الإجمالية بالعين المحايدة أن 30 يونيو رغم الصعوبات حصلت على صك شرعية رسمي من صناديق الناخبين، وأصبح المجتمع أو الرأي العام، أشبه بمن يكون في غرفة الانتظار ترقبا للاستحقاق الأهم الذي ينتظرونه، وكان بين الأسباب الهامة للذهاب إلى لجان الاستفتاء، وهو بقية خطوات خريطة الطريق حتى تكتمل الشرعية، هي انتخاب الرئيس والبرلمان، وأيهما يسبق الآخر، مع ترجيحات قوية بأن يعلن الرئيس المؤقت عدلي منصور قراره خلال ساعات أو أيام، لا أحد يبدو متيقنا، والخطوات تقاس بميزان ذهب في ضوء تجربة الأعوام الثلاثة الأخيرة وتقلبات الرأي العام خلالها.

يتحدث الناس وهم في حالة غرفة الانتظار هذه، عن الانتخابات الرئاسية ويتوقعون أن تسبق البرلمانية، كما يتحدثون عن الرجل الذي أصبح صاحب شعبية كبيرة، وهو وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي، ومتى سيتخذ، وكيف سيجري ذلك إذا قرر، ومن أيضا سيترشح، خاصة أنه بعد التصويت على الدستور بالموافقة يفترض أن العجلة الدستورية دارت، ولها مواعيدها الزمنية التي يجب أن تجري خلالها، وسوق الشائعات واسعة في هذا أيضا، ومفاجآت مصر لم تتوقف منذ 25 يناير 2011. الشيء الوحيد المؤكد هو أن الأيام المقبلة هي وقت القرارات ، وأن مهمة الرئيس المقبل والنظام الذي سيتأسس بعد استكمال خارطة الطريق شاقة، خاصة علي الصعيد الاقتصادي، بعد خسائر قدرها مسؤول سابق بما يتجاوز 100 مليار دولار، في أصول سابقة وعائدات مفترضة كان يفترض أن يجنيها الاقتصاد خلال ثلاث سنوات.