«لقمة العيش» تشغل نصف المصريين ولا تستهويهم السياسة

مراقبون لـ «الشرق الأوسط»: «الشريحة الخاملة» من المهمشين.. لكنْ منها أثرياء ومثقفون

TT

بعد نزول المصريين للإدلاء بأصواتهم في ستة استحقاقات، ثلاثة منها استفتاءات دستورية ومثلها انتخابات رئاسية وبرلمانية بغرفتيها، على مدار الأعوام الثلاثة الماضية عقب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، تشير الأرقام إلى دلالات هامة للغاية، أبرزها أن الإقبال على الاستفتاء الأخير هو الأكبر مقارنة بنظيريه الآخرين، لكنه لا يمثل في حد ذاته الرقم الأبرز في تاريخ المشاركات الست، التي شهدت ذروتها في انتخابات مجلس الشعب والرئاسة على الترتيب.

وكما توضح الأرقام تراجع تأثير التيارات الإسلامية بصورة عامة، وجماعة الإخوان المسلمين بصورة خاصة، على الشارع المصري، فإنها تظهر أيضا وجود شريحة «خاملة» تصل إلى نحو نصف عدد المصريين المسجلين بجداول الانتخابات في كل الاستحقاقات، والذين يبدو أن هموم الحياة والبحث عن لقمة العيش تشغلهم أكثر مما تستهويهم المشاركة السياسية.. وإن كان مراقبون يرون أن هذه الشريحة ليست «كتلة» ثابتة كليا، إذ إن جزءا منها متغير بحسب تطورات الأوضاع على الأرض.

ويوضح الدكتور وحيد عبد المجيد، نائب مدير «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، أن الشريحة «الخاملة» تنقسم إلى شقين رئيسين، أحدهما عازف عن المشاركة بشكل مستمر، والآخر متغير، ومنتموه قد يشاركون في بعض الأحداث أو الاستحقاقات وفق حماس تلك الفئة أو قد تحجم عن ذلك.

أما عن الفئة العازفة بشكل مستمر، فيلفت عبد المجيد، أستاذ العلوم السياسية والقيادي بجبهة الإنقاذ، إلى أن أغلبها ينتمون إلى جزء من الشعب المصري «يعيش خارج نطاق الحياة»، «ويعيشون في مناطق لا يمكن وصف الحياة فيها بأنها حياة من الأساس».. موضحا أن أغلبهم يحيى في قرى ونجوع نائية، لكن كذلك يعيش بعضهم في قلب القاهرة والمحافظات الكبرى في مناطق «بائسة»، مؤكدا أن انقطاعهم عن المشاركة السياسية قد لا يكون اختيارا، بل نتيجة ظروف بائسة عزلتهم تماما ليصبحوا «أكثر من مهمشين»، وقال إنهم «خارج نطاق الاهتمام، وربما لا يعرف بعضهم بالأساس ما الذي يحدث حولهم. ومنشغلون بالشأن الخاص، من توفير سبل الحياة الأولية، وليسوا معنيين بالشأن العام».

وينفي عبد المجيد أن تكون الأمية سببا رئيسا في عدم المشاركة، قائلا إن هناك جزءا لا بأس به من تلك الفئة من «كبار المتعلمين» والمثقفين، كما أن جزءا من تلك الفئة على النقيض، من الأثرياء غير المعنيين بالشأن العام بقدر اهتمامهم بمصالحهم الخاصة، وهؤلاء عازفون عن المشاركة باختيارهم.

وينص قانون مباشرة الحقوق السياسية المصري على أنه «على كل مصري ومصرية بلغ ثمانية عشر عاما أن يباشر بنفسه الحقوق السياسية الآتية: أولا، إبداء الرأي في كل استفتاء ينص عليه الدستور. ثانيا، انتخاب كل من: رئيس الجمهورية، وأعضاء مجلس الشعب، وأعضاء مجلس الشورى، وأعضاء المجالس الشعبية المحلية»، مستثنيا ضباط وأفراد القوات المسلحة وضباط وأفراد هيئة الشرطة طوال مدة خدمتهم، ويحرم من ممارسة ذلك الحق المحكوم عليهم في تهم تتعلق بالشرف ما لم يرد إليهم اعتبارهم وفقا للقانون.

وبالنظر إلى الاستحقاقات الانتخابية الستة التي مرت بها مصر، فإن قاعدة بيانات الناخبين تطورت وازداد عددها، نظرا لإضافة أعداد كبيرة من الشباب الذين تجاوزوا سن الثامنة عشرة في تواريخ إجراء الاستحقاقات.

ووفقا لأرقام رسمية أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات في مصر، فإن نسبة المشاركين في استفتاء مارس (آذار) 2011 بلغت 41 في المائة من إجمالي من يحق لهم التصويت، والبالغة آنذاك 45 مليون مواطن. ثم كانت انتخابات مجلس الشعب، الذي حل لاحقا، وجرت في يناير 2012 بمشاركة 54 في المائة من قاعدة الناخبين التي جرى تعديلها لتبلغ نحو 50 مليونا، بينما شهدت انتخابات مجلس الشورى في فبراير (شباط) 2012 فتورا بالغا، إذ شارك بها 6.43 مليون ناخب، بنسبة مشاركة تبلغ نحو 12.9 في المائة فقط.

وفي مايو (أيار) 2012 أجريت الانتخابات الرئاسية، التي شهدت جولة إعادة في يونيو (حزيران) بين المرشحين الأكثر حصولا على الأصوات، الرئيس السابق محمد مرسي ومنافسه رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق. وشارك في جولتها الثانية نحو 51.85 في المائة من الناخبين. وشهدت نهاية عام 2012 استفتاءا دستوريا شارك فيه نحو 17 مليون ناخب، بنسبة نحو 32.9 في المائة، أسفر عن تأييد 63.6 في المائة، ورفض 36.4 في المائة. ثم كان الاستفتاء الأخير في 14 و15 يناير الحالي، الذي شهد مشاركة 20.6 مليون ناخب، بنسبة 38.6 في المائة من قاعدة الناخبين، وأسفر عن موافقة 98.1 في المائة، بينما رفضه 1.9 في المائة.

وبقراءة تلك النسب، يبدو أن اهتمام المصريين كان أكبر للمشاركة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، منه عن الاستفتاءات الدستورية. ويقول الدكتور عبد المجيد إن ذلك يعود إلى طبيعة عملية الانتخابات، ودائما يوجد بها علاقة مباشرة بين الناخب والمنتخب على الأرض، حيث يقوم مرشحون بعملية تعبئة سعيا لجذب الأصوات في إطار المنافسة الحزبية الشرسة، وهو ما يغيب عن عملية الاستفتاء التي تقتصر على محاولات الدولة للحشد الجماعي.

ويرى بعض المراقبين أن مشاركة عدد كبير نسبيا في خلال انتخابات الرئاسة، وكذلك في الانتخابات البرلمانية، كان ناتجا بصورة أولية عن اهتمام الشارع باختيار رأس الدولة أولا، وما شهدته مرحلة الإعادة في انتخابات الرئاسة من صراع آيديولوجي بين معسكري ما يمكن تسميته بـ«رفض الآخر»، لأن كلا المرشحين حصل على نحو ثمانية ملايين صوت «نكاية في منافسه، بأكثر من كونها اختيارا له»، بحسب المحللين.

أما المفارقة في انتخابات مجلس الشورى، فيشير عبد المجيد إلى أن ذلك يؤيد ذات النظرية. ويعود التراجع في المشاركة بها إلى سببين، أولهما أن انتخابات الشورى دائما ما تشهد إقبالا قليلا من الناخبين، وقد تعد نسبة 13 في المائة جيدة مقارنة بما كان يحدث قبل ثورة 25 يناير 2011، حيث كان عدد الناخبين لا يتجاوز ثلاثة إلى أربعة في المائة من الإجمالي.. وكذلك لأن أغلب القوى استنفذت طاقتها في انتخابات مجلس الشعب. والأمر الثاني أن المرشحين أنفسهم كانت تحركاتهم أقل، حيث إن التيارات المدنية وعناصر المستقلين تراجعت - وتكاد تكون انسحبت - عن خوض الانتخابات بقوة عقب إحباطهم نتيجة سيطرة التيارات الإسلامية «الأكثر تنظيما» على مجلس الشعب، وبالتالي قلصت التيارات الإسلامية من تحركاتها، وحشدت في الحدود الدنيا التي تكفل لها هدفها في الحصول على المقاعد وتحقيق الأغلبية.

وحدث ذلك رغم أن تلك الفترة شهدت اعتقادا واسعا لدى الرأي العام بأن جماعة الإخوان سيكون لهم دور في حل مشكلات البلاد، باعتبارهم التنظيم الوحيد والقوي والمنتشر، لكن فورة التوقعات التي كانت لدى الكثيرين بالنسبة للإخوان، حين اختبرت في الواقع، أدت إلى صدمة شديدة مهدت لسقوط سريع للجماعة لاحقا، بحسب ما يراه المحلل السياسي.

ويقول ناشطون ومدافعون عن جماعة الإخوان إن مقاطعة أنصار جماعة الإخوان للاستفتاء كونهم لا يعترفون بشرعية خارطة الطريق، ربما أسهمت في أن لا تتخطى نسبة المشاركة حاجز الـ40 في المائة في الاستفتاء الأخير، لكنّ مراقبين ومحللين أكدوا أن تأثير الجماعة تراجع في الشارع المصري بصورة كبيرة.

ويستند المراقبون إلى رقم صلب في المعادلة السياسية للاستدلال على قدرة الجماعة في الشارع والقياس عليه، وهو ما حصل عليه الرئيس السابق مرسي في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة في عام 2012 ويبلغ 5.76 مليون صوت انتخابي، وهو أقصى قدرة للجماعة على الحشد، متضمنا قواعدها وكوادرها وعائلاتهم، وتأثيرهم على أصوات البسطاء بمختلف الطرق، سواء عبر الإقناع أو الضغط أو حتى الرشى الانتخابية.

لكن عبد المجيد يوضح أن تأثير الإخوان تراجع جذريا، ويؤكد أن هذا الرقم لا يقاس عليه حاليا، لأن الإخوان فقدوا الجزء الأكبر من مؤيديهم وتوابعهم وأصبح «رقما تاريخيا»، مقدرا تأثيرهم اليوم بما لا يتجاوز 1.5 إلى مليوني صوت انتخابي، بحد أقصى.

وفي ما يخص الاستفتاء الأخير، يقول الدكتور عمرو الشوبكي، المفكر السياسي المصري، في تعليق بمقال صحافي: «المؤكد أن (نعم) الكاسحة ترجع لعدة أسباب، منها أن المصريين لم يصوتوا فقط على وثيقة دستورية، إنما على خريطة طريق واستقرار وعلى دولة وطنية، وعلى عقاب الإخوان، وأيضا على ترشح السيسي». ويتابع: «والمؤكد أن الإعلام والمناخ المصاحب لـ(نعم) الكاسحة دفع أنصار (لا) من خارج الإخوان وحلفائهم إلى مقاطعة الاستفتاء بعد أن غابوا تقريبا عن وسائل الإعلام، حتى وصل الأمر إلى توقيف بعض شباب مصر القوية، لأنهم يحملون ملصقات تدعو إلى (لا)، في تكرار لأساليب أمنية لا يجب أن تستمر معنا».

لكن الدكتور وحيد عبد المجيد يشير إلى أن المناخ العام كان فيه قدر كبير من المغالاة الشديدة في مهاجمة من يعترض على الدستور، رغم أن كثيرين منهم لا يعارضون المسيرة السياسية في حد ذاتها، وجرت المساواة بين من يعارض كل أو بعض بنود في الدستور وبين من يرفض الاستفتاء من الأصل ويقاطع خارطة الطريق، ما أدى إلى أن قطاعا من المصريين أحجم عن المشاركة نتيجة شعورهم بـ«غربة وإرهاب فكري»، إضافة إلى تراجع ملحوظ في مشاركة الشباب، ربما نتيجة إحباط سياسي أو اجتماعي لما يراه بعضهم من عدم تحقق توقعاتهم بـ«تمكين شبابي» أكبر داخل الدولة.

وما إذا كان من الممكن أن تتغير أرقام المعادلة في الاستحقاقين المقبلين، يرى عبد المجيد أنه «لا بد أن يحدث تحرك سريع لإعادة الأمل لدى الشباب في المستقبل، ولو لم يحدث ذلك فسيتجهون إلى الانفراط وقد يزداد عدد المنصرفين عن العملية السياسية.. بينما أعتقد أن يعود أولئك الذين كانوا يرغبون في المشاركة بـ(لا) في الاستفتاء إلى المشاركة في الاستحقاقات الأخرى بعد تجاوز إحباطهم».