300 متر خط التماس الفاصل بين اللبنانيين والقنص السوري

الحرب المجاورة غيرت حياة القرويين في المناطق الحدودية

لبنانيون يعاينون منزلا في عرسال أصابته قذيفة أطلقت من الجانب السوري (رويترز)
TT

يحمل أحمد (22 عاما) بندقية صيد على كتفه، ويسير خلف بقراته نحو واد يفصل بين قريتي الكواشرة والدبابية الحدوديتين مع سوريا في عكار (شمال لبنان). «ليس أمامنا حل آخر»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، «فقد حال القصف المتكرر للأراضي اللبنانية، دون ارتياد مراع خصبة محاذية للحدود السورية»، وهي المعضلة التي غيرت حياة اللبنانيين في المناطق الحدودية مع تلكلخ في سوريا، وتسببت بنزوح كثيرين منهم إلى عمق الأراضي اللبنانية.

ورسمت الحرب الدائرة في سوريا، خطوط تماس جديدة لم يعتدها سكان القرى المجاورة. كانت علاقة هؤلاء قبل الأزمة، أبلغ مثال على التلاحم الاجتماعي والتجاري بين القاطنين في القرى اللبنانية والسورية، لدرجة تصعب الفصل بينهما. «كان العبور إلى تلكلخ وحمص (وسط سوريا)، أسهل بكثير من النزول إلى طرابلس (شمال لبنان)»، يقول حسن الذي أنهت الحرب علاقاته التجارية مع سكان حلات وأبو مشاعل في ريف تلكلخ، مشيرا إلى أن الجار السوري «بات عدوا الآن، ويرصدنا يوميا بقناصاته، ما يمنعنا من ارتياد أرضنا إلى جانب النهر الكبير، كما يطلق علينا قذائفه، لإفراغ المنطقة من السكان».

وساهمت القذائف التي تطلقها القوات الحكومية السورية من مواقعها الممتدة من نقطة العبودية الحدودية، صعودا نحو الشرق باتجاه ريف القصير، بإفراغ القرى اللبنانية من قاطنيها. ويقول من بقي «صامدا» منهم، إن «القصف المتكرر، وآخره ليل أول من أمس، دفع بمعظم السكان إلى الرحيل، ولم يبق هنا إلا العجائز والرعاة غير القادرين على المغادرة». ويعيش هؤلاء على وقع دوي المدافع التي تطال قذائفها، يوميا، القرى اللبنانية نتيجة للاشتباكات الدائرة في الداخل السوري.

لكن دمشق، تقول، إن «قواتها تطلق النار على متسللين يحاولون العبور إلى الداخل السوري في تلكلخ». هذه العبارة، تتكرر يوميا على التلفزيون السوري، على الرغم من نفي السكان اللبنانيين عبور مقاتلين معارضين إلى الداخل. يقول خالد عباس الذي يسكن قرية النورا اللبنانية، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الذباب الأزرق لا يستطيع العبور إلى الأراضي السورية»، مشيرا إلى أن القوات الحكومية تراقب مجرى النهر الكبير، الذي يفصل بين البلدين، من مواقعها.

واستخدم سكان القرى السورية النازحين باتجاه لبنان، مجرى النهر الكبير وسيلة للعبور إلى الأراضي اللبنانية، وممرا لإخراج الجرحى من قرى ريف تلكلخ باتجاه الأراضي اللبنانية، فضلا عن استخدامه ممرا لدخول مسلحين معارضين سوريين إلى الداخل، كما يقول سكان القرى.

غير أن سيطرة قوات نظام الرئيس السوري بشار الأسد، على كامل المناطق الحدودية مع لبنان، واستحداث مواقع جديدة على طول الحدود، وزراعة الألغام على الجانب السوري منها، قلص إلى حد كبير الحركة إلى الداخل. وتسيطر القوات الحكومية السورية على القرى ذات الأغلبية العلوية والسنية المواجهة لقرى عكار اللبنانية، واستحدثت أكبر مواقعها في بلدة أدلين غرب تلكلخ.

ومنعت تلك المواقع النظامية السكان اللبنانيين من الاقتراب من النقاط الحدودية المواجهة. يقول عباس: «لا نستطيع الاقتراب أكثر من 300 متر عن الحدود، كيلا نتعرض لرصاص القنص وقذائف المدفعية»، مشيرا إلى أن القصف المتواصل يمنع المزارعين في الضفة اللبنانية من الوصول إلى أراضيهم، وحال دون زراعة محاصيل تحتاج إلى الري، مثل فستق العبيد وغيرها.

ويطالب اللبنانيون بنشر قوات حفظ سلام دولية في المنطقة لرد الاعتداءات السورية عليهم، كما يقول سكان من بلدتي النورا والدبابية لـ«الشرق الأوسط»، معلنين أن هذا المطلب الذي طالبت به قوى «14 آذار» اللبنانية «من شأنه أن يحمينا من القصف اليومي الذي لا يرد عليه الجيش اللبناني المنتشر على الحدود».

وكان رئيس كتلة «المستقبل» الرئيس فؤاد السنيورة، طالب في يناير (كانون الثاني) الماضي بنشر الجيش على الحدود الشمالية والشرقية ومؤازرته من القوات الدولية.

وينتشر الجيش اللبناني في معظم القرى الحدودية، وتوجد قوة مشتركة قوامها عناصر من الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام في مراكز حدودية. وتظهر آثار القصف على منازل مواجهة للمواقع السورية في البلدات الحدودية، فيما يبدو القصف عشوائيا، ويتنوع بين قذائف الهاون وقذائف الـ130 و155 مللم. وتجدد القصف مساء الثلاثاء – الأربعاء، حيث سقطت قذائف في خراج بلدات النورا، وقشلق، وحكر جنين والدوسة وعمار البيكات وعمار البيكات، كما سجل إطلاق نار استهدف الأوتوستراد الذي يربط العبودية بمنجد.

ويهمس السكان في القرى الحدودية، بأن معارضين حاولوا في مرات سابقة العبور إلى الداخل السوري لتنفيذ عمليات ضد القوات النظامية في تلكلخ. ويقول مصدر ميداني رفض الكشف عن اسمه، إن «تحركات عسكرية على الجانب اللبناني من الحدود، في بلدة العوينات اللبنانية، صعدت وتيرة القصف السوري الذي سجل أعنفه يوم الجمعة الماضي، وأدى إلى سقوط قتيل سوري وثمانية جرحى»، مشيرا إلى أن مقاتلين تربطهم صلات قربى بسوريين في بلدة الحصن داخل الأراضي السورية، حاولوا التسلل لتوفير دعم للمقاتلين في البلدة السورية المحاصرة، ما رفع وتيرة القصف.

وتشير تقارير لبنانية إلى أن معارضين سوريين، يتخذون من بعض المناطق اللبنانية مواقع آمنة لهم. وفي هذا السياق، داهمت قوة من الجيش اللبناني ودورية من أمن الدولة ومخابرات الجيش، أمس، غرفة في خراج بلدة عيدمون في عكار، يستأجرها أحد اللاجئين السوريين، وحولها إلى مستودع أسلحة. وأفادت الوكالة الوطنية للإعلام الرسمية اللبنانية، بضبط كميات كبيرة من الأسلحة الحربية منها صواريخ غراد وقذائف «آر بي جي». وذكرت تقارير أن الأسلحة المصادرة هي ثلاثة صواريخ «غراد»، وستة مدافع هاون، وعبوات ناسفة محلية الصنع، وقناصة، و40 صندوق ذخيرة عيارات مختلفة، ورشاشين ثقيلين، ومصنع صغير لتصنيع العبوات الناسفة وقدرت الحمولة بنحو حمولة شاحنة.

وباتت الاشتباكات في الداخل السوري، بعيدة إلى حد ما عن الحدود. فقد انحصرت المعارك في تلكلخ، في العمق السوري وتحديدا في بلدة الزارة ذات الأغلبية التركمانية، وبلدة الحصن التي تبعد أربعة كيلومترات عن الحدود اللبنانية. وتستخدم القوات الحكومية سلاح الجو لتنفيذ هجمات ضد المقاتلين المعارضين، إلى جانب سلاح المدفعية. وبعد هدوء استمر لساعتين، كان سهلا من الأراضي اللبنانية مشاهدة طائرة حربية سورية تغير على مواقع للمعارضة في بلدة الزارة داخل الأراضي السورية. ويقول سكان لبنانيون إن «ذلك المشهد يتكرر بالتزامن مع وقوع اشتباكات في الداخل، وترتفع وتيرة القصف في القرى السورية في ساعات الصباح الأولى، ويتردد دوي القذائف والصواريخ هنا».

على المقلب السوري من الحدود، تلاصق القرى العلوية، جاراتها ذات الأغلبية السنية. ويقول لبنانيون إن «القوات الحكومية السورية مارست تطهيرا في القرى السنية، كون معظمها كان معارضا». وقبالة قرى حالات ودبابية والنورا وفريديس والكواشرة اللبنانية، تقع قرية حالات السورية التي يقول لبنانيون إن «سكانها نزحوا منها، إثر المعارك مع القوات النظامية. كذلك قرية أبو مشاعل السورية. أما القرى العلوية فباتت مراكز للقوات النظامية، وأهمها البهلوانية والغوطة وتل سيرين والمخطبية والحارة». أما قرية عزير السورية، ذات الأغلبية المسيحية، فلا يزال قسم كبير من سكانها في منازلهم.