انتحاري المستشارية الإيرانية يشرخ العلاقات بين الفلسطينيين واللبنانيين في الجنوب

سكان في البيسارية يداهمون منزل الفلسطيني نضال المغيّر.. ووالده يقول لـ «الشرق الأوسط» إن العائلة تبرأت منه

هشام المغير والد الانتحاري الفلسطيني نضال أمام منزله في البيسارية بالجنوب اللبناني («الشرق الأوسط»)
TT

أربعة كيلومترات فقط، تفصل بين بلدتي البابلية والبيسارية في جنوب لبنان. في الأولى، كان السكان يقيمون حفل تأبين لواحد من أبنائها، قضى في تفجير بئر حسن الانتحاري الذي استهدف مبنى المستشارية الثقافية الإيرانية في بيروت، الأربعاء الماضي، فيما كانت عائلة أحد الانتحارييْن اللذين نفذا الهجوم في البيسارية، تتبرأ من ابنها، وتدين فعلته، وتحاول تهدئة النفوس في البلدة، تجنبا لردود فعل انتقامية إضافية.

وتغير المزاج العام في البيسارية منذ لحظة إعلان هوية أحد انتحاريي تفجير بئر حسن، الفلسطيني نضال هشام المغيّر (22 عاما). يعم الاستهجان القرية الجنوبية التي تسكنها أغلبية شيعية. ويسأل أبو علي، أحد كهول البلدة: «ماذا أخطأنا بحق الفلسطينيين الذين نستضيف 80 عائلة منهم؟ هل نستحق أن يفجر شخصان منهم نفسيهما بأبنائنا؟».

وكان الكشف عن هوية الانتحاريين اللذين هاجما السفارة الإيرانية في بيروت، في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أثبت أن أحدهما أيضا ينحدر من البيسارية، وهو عدنان المحمد، إضافة إلى الانتحاري الأخير نضال المغيّر.

غير أن رد فعل أبناء البلدة الخميس الماضي، غداة الكشف عن هوية الانتحاري، لم يشبه رد فعلهم في نوفمبر الماضي.. في المرة الأولى، تحرك رئيس البلدية فؤاد مشورب، الذي يحظى بنفوذ واسع نظرا لامتداده الحزبي في حركة أمل، التي يرأسها رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، في البلدة، مانعا أبناءها من مهاجمة منزل الانتحاري. لكن الخميس الماضي، لم يستطع أن يمنع سكان البلدة وشبانا من بلدات محيطة، من إحراق منزل عائلة الانتحاري نضال المغيّر، وسياراتها. «كانت ردة الفعل غاضبة وعفوية»، يقول أحد أبناء البلدة لـ«الشرق الأوسط»، مشيرا إلى أن السكان «حاولوا توجيه رسائل رادعة لعائلات الفلسطينيين الذين يعتقد أن نحو عشرة من أبنائهم، كانوا مقربين من (الشيخ المتشدد) أحمد الأسير».

وكان الجيش اللبناني هاجم مقر الأسير في يوليو (تموز) الماضي في عبرا (شرق صيدا)، بعد هجوم من عناصره على نقطة للجيش، أسفر عن وقوع قتلى عسكريين. ويعد الآن فارا من العدالة، ويغرد على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، مواصلا تهديده بمهاجمة حزب الله.

وتضاعفت مشاعر الغضب، بعد تسريب مقاطع فيديو للانتحاري المغير، أثناء مقابلته في القلمون بريف دمشق الشمالي، توعد فيها بقتال حزب الله وذبح الشيعة. لكن عائلته، تنفي أن يكون من ظهر في هذا المقطع ابنها، قائلة إنه ظهر في أحد المقاطع، فيما كان الشخص الثاني الذي توعد الشيعة، ليس نضال.

وفور إحراق منزل آل المغيّر، انتقل هشام، والد الانتحاري، إلى منزل ذويه، حيث يعيش وعائلته في عزلة عن محيطهم. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «ابني خسر الدنيا والآخرة، وكان سببا في إزهاق أرواح الأبرياء في عمل أدينه، وأتبرأ منه، كما تسبب في خلافات مع جيراننا هنا»، مستغربا في الوقت نفسه إحراق ممتلكاته «علما بأننا أصدرنا بيانا من العائلة ندين فعلة ابننا، وتقدمنا فيه من عائلات الضحايا الأبرياء بأحر تعازينا». ويقول: «لا أنكر عتبي على سكان القرية التي أسكنها منذ أكثر من 30 عاما، لأن الله يقول: (لا تزر وازرة وزر أخرى)، فلماذا يعاقبوننا على ما نحن تبرأنا منه؟».

ويقول سكان القرية إن أكثر من مائة شخص، هاجموا منزل آل المغير وأحرقوه، في رد فعل غاضب، بعد الكشف عن هوية نضال، مما تسبب في إحراق دكان ومنزل وسيارتي توزيع خبز، وسيارة رباعية الدفع يملكها والده. ويقول المغيّر الأب: «كل أبناء البيسارية تربطني بهم علاقات طيبة، ولم تشهد تجربتي في البلدة، أي احتكاك مع أحد، ويعرفون بأنني مقاوم، وأصبت في حرب يوليو (تموز) 2006، بشظايا القصف الإسرائيلي، حين كنت أعمل على توفير الخبز والمواد الإغاثية للمدنيين المحاصرين في بلداتهم في الجنوب». ويشير إلى أن العلاقة الطيبة مع السكان، نُسجت نتيجة تماهيه السياسي معهم في خط الممانعة، كونه كان ناشطا سابقا في «حركة الجهاد الإسلامي» الفلسطينية في لبنان، ومقربا من القيادي فيها محمد المجذوب الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية في صيدا عام 2004.

غير أن تجربة ابنه، بدلت كثيرا من المعطيات في علاقته مع سكان البلدة.. فقد عرف نضال بسلوكه المتشدد، منذ أغسطس (آب) 2012، حين تعارك مع زوج شقيقته، وهو أحد أبناء البلدة من آل عبد الله، على خلفية زواجها من شخص شيعي. ويقول إبراهيم (28 عاما)، وهو أحد سكان البيسارية، إن إمام مسجد منطقة يارين الجديدة (المتاخمة للبيسارية) أحمد عبيد، تدخل على خط المصالحة، إضافة إلى شخصية أمنية لبنانية رسمية. وقيل إن الشيخ أحمد الأسير، عرض الوساطة، قبل أن ترفض العائلة. لكن هذه المعطيات، ينفيها هشام المغير، موضحا أن المشكلة «كانت عائلية صرفة، ولم يعرض الأسير وساطة أبدا».

وتوجس أهالي البلدة من نضال، بعد هذا الإشكال، نظرا لعلاقاته، وأصدقائه الذين يسكنون الشارع نفسه، بالشيخ الأسير. وتردد أن نضال كان ينوي تفجير نفسه بالنادي الحسيني في البلدة، أثناء إحياء مناسبة عاشوراء في عام 2012. وينفي والده هشام أيضا هذه المعلومات، قائلا إن ابنه «لم يكن من مجموعة الأسير، بل كان يصلي وراءه يوم الجمعة، كما كان يصلي وراء مشايخ آخرين في المنطقة»، مشيرا إلى أن نضال غادر البلاد قبل أن يشتبك الأسير مع الجيش اللبناني بأشهر.

وسجل رحيل نضال عن البلدة، في ديسمبر (كانون الأول) 2012، قائلا لوالده إنه ينوي الهجرة إلى فنزويلا. لم يلمحه أبناء البلدة منذ ذلك الوقت، غير أنه اتصل بوالده بعد فترة من سفره، ليبلغه أنه يقيم في سوريا. يقول هشام: «سألته عما يفعله في سوريا، وقال إنه يعمل في حدادة السيارات.. لم تقنعني إجابته، وأبلغت السلطات اللبنانية آنذاك أن ابني موجود في سوريا». ويشير إلى أن آخر اتصال به، كان في ديسمبر 2013. يقول: «عرضت عليه أن يعود إلى لبنان لتسوية أوضاعه مع السلطات اللبنانية، ووعدني خيرا. كنت أخاف أن يرتكب حماقة، مثل تنفيذ تفجير انتحاري، على غرار صديقه عدنان المحمد، جارنا، الذي استهدف السفارة الإيرانية. كان ذلك بعد نحو 20 يوما على التفجير، ووعدني بأنه لن يرتكب أية حماقة.. لا أدري ماذا حصل معه؟».

ويرجح المغيّر الأب عدة فرضيات دفعت ابنه لتنفيذ عملية انتحارية، من غير أن يكون متيقنا من أي منها. يقول: «الأكيد أن ابني ضللوا به، ودفعوه لتنفيذ التفجير، علما بأن مهاجمة الأبرياء تخالف قناعته لأنه كان مقتنعا بفكرة مقاومة إسرائيل دون سواها، وكان أصيب في منطقة جسر القاسمية قرب صور في حرب يوليو (تموز) 2006، جراء تنفيذ الطائرات الإسرائيلية غارة جوية عليه»، مرجحا أيضا أن يكون «من غرر بنضال، أعطاه حبوب هلوسة، لأنه من المستحيل القيام بفعل مشابه».

وبعد جولة في الذاكرة على تجربته في البيسارية، قبل مغادرته بأربعة أشهر، حيث كان يعمل في حدادة السيارات، يقول إن «أحد المشتبه بعلاقتهم بالجماعات المتشددة، وهو مروان حمادة الذي يقيم في البيسارية، كان يتردد على محل ابني»، لافتا إلى أنه أمر نضال بعدم التعاطي مع مروان، «حتى لو كان يريد تصليح سيارته». ويقول: «لم أرَ مروان في ورشة نضال منذ ذلك الوقت، لكنني لا أعرف إذا كانا على تواصل بعيدا عن عيني».

ومروان حمادة (29 عاما)، كان يسكن في البيسارية على بعد عشرات الأمتار من منزل نضال، ويتحدر من قرية يارين الحدودية مع إسرائيل، ذات الأغلبية السنية. ويقول أبناء البلدة إن حمادة سجن لدى السلطات اللبنانية بعد حرب نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان في صيف 2007، بين الجيش اللبناني وتنظيم «فتح الإسلام» المتشدد الذي هاجم وحدات الجيش في طرابلس. ويشير أحد أبناء البلدة إلى أن حمادة «كان ناشطا في تنظيمي (فتح الإسلام) و(جند الشام) المتشددين، وغاب عن البلدة منذ عام 2010 بعد خروجه من السجن، وقيل إنه يدير متجرا صغيرا في طرابلس»، من غير تأكيد المعلومات. كما يشيرون إلى أن شخصا آخر من يارين، وهو مطلق الجعيص، سُجن نحو ثلاث سنوات لضلوعه في أحداث نهر البارد.

ويتخوف أبناء البلدة في هذا الوقت، من أن يكون مروان هو الانتحاري الثاني في تفجيري بئر حسن المتزامنين الأربعاء الماضي، نظرا لعدم الكشف عن هويته حتى الآن. ووسط صمت في مبنى البلدية عن الإدلاء بأي تصريح، بانتظار أن يعقد رئيس البلدية مؤتمرا صحافيا يعلن فيه موقفا من خروج انتحاريين من البلدة خلال ثلاثة أشهر، تغلي البلدة، مما يشي بتحديات جديدة تنتظر الفلسطينيين فيها، إذا ثبت أن الانتحاري الثاني هو مروان.

ولا يبرئ سكان البيسارية، الفلسطينيين فيها، من تهمة «التستر على المتشددين»، بعد تنفيذ اثنين منهم تفجيرين انتحاريين استهدفا مصالح إيرانية في بيروت، وتبنتهما «كتائب عبد الله عزام» المرتبطة بتنظيم القاعدة، فضلا عن انكشاف علاقتهما بالأسير. إضافة إلى ذلك، أوقفت استخبارات الجيش اللبناني ابن عم نضال المغيّر قبل شهرين، وهو قاسم المغير، بعد مداهمة منزله في البيسارية، ولا يزال موقوفا حتى الآن. ويقول أبناء البلدة إن ستة أشخاص من المجموعة نفسها التي كانت تصلي وراء الأسير في صيدا، العام الماضي، لا يزالون يقيمون في البلدة، «ونتوجس منهم»، علما بأن هذه المجموعة «كانت غير ملتزمة دينيا، وتحولت نحو التشدد بعد ظهور الشيخ الأسير في صيدا»، وهي المدينة التي تتبعها البيسارية إداريا، وتبعد نحو 15 كيلومترا عن صيدا.

ويمتلك الفلسطينيون في البيسارية، نحو 80 منزلا، يقيمون فيها منذ عامي 1948 و1967. وتربطهم بأبناء البلدة ومحيطها، علاقات مصاهرة، أبرزها زواج جد الانتحاري وعمه بامرأتين شيعيتين من المنطقة، وزواج أخته من شاب من البلدة. ويقيم في البلدة، نحو 200 عائلة سنية نزحت من قرى يارين، والبستان والضهيرة الحدودية مع إسرائيل، أثناء الاحتلال. كما تستضيف البلدة، وتحديدا منطقة العاقبية التابعة لها، نحو ألف عائلة نزحت من سوريا بعد اشتعال الأزمة السورية.

ولا يقيم الفلسطينيون في البيسارية، في مخيمات شبيهة بتلك الموجودة في صيدا وصور في جنوب لبنان.. ففي صيدا، يقع أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، هو مخيم عين الحلوة، الذي أشارت تقارير متكررة إلى أن متشددين يسكنون أحد أحيائه، ويسكن المخيم نحو 45 ألف فلسطيني، تضاعف عددهم بعد استقبال فلسطينيين نزحوا من مخيم اليرموك بجنوب دمشق. كما تتضمن صيدا مخيم «المية ومية» ويسكنه نحو خمسة آلاف فلسطيني.

أما في صور (جنوب لبنان)، فيتوزع اللاجئون الفلسطينيون على مخيمات «البص»، ويسكنه نحو عشرة آلاف نسمة، و«برج الشمالي» ويسكنه نحو 18 ألف نسمة، و«الراشدية»، ويسكنه نحو 25 ألف نسمة.\