كلمة أوكرانيا تعني «على الحدود».. والصراع مرشح للتصاعد

الاتحاد الأوروبي لا يفهم البلد.. وروسيا واقعة فريسة للأوهام

TT

يبدو أمرا سهلا أن يجري تجاهل الانقسامات والخلافات السياسية التي تضرب أوكرانيا من حين لآخر، مثلما هو الحال إزاء سهولة نسيان أمر الرهانات الدولية المتورطة في أحدث الفصول التي تشهدها أوكرانيا مؤخرا من بناء الدولة ثم هدمها، ثم إعادة بنائها مرة أخرى. غير أنه يبقى من المؤكد أن تكرار التجاهل والنسيان يشير إلى أن التاريخ سيستمر في إعادة نفسه مرارا وتكرارا. وعليه، فبدلا من غض الطرف والتجاهل التام من قبل جميع الأطراف للشأن الأوكراني، يبقى من الضروري أن يجري تقييم الوضع في كييف جيدا، حتى لو أدى ذلك إلى فضح بعض الأوهام التي ظلت راسخة في الأذهان عن البلاد وعن الأدوار التي تلعبها روسيا والاتحاد الأوروبي في كييف.

أول هذه الأوهام يتعلق بطبيعة أوكرانيا نفسها، التي تتميز بالكثير من التناقضات الحادة وعوامل الوحدة القليلة. أضف إلى ذلك الاختلافات اللغوية والثقافية الكثيرة، والارتباك الآيديولوجي، فالبعض في أوكرانيا ينظر باتجاه الغرب، بينما يولي آخرون وجههم شطر الشرق. وهناك فريق يتوق لإعادة مجد للشيوعية، بيمنا تستحوذ فكرة تطبيق خطط ما بعد الحداثة، التي تتبناها أوروبا «الجديدة»، على فريق آخر. هناك مناطق ريفية تعاني من فقر مدقع في أوكرانيا، وعلى الجانب الآخر، يمكن للمرء أن يرى المناطق الحضرية شديدة الثراء. غير أن الملمح الأكثر أهمية لطبيعة أوكرانيا يتبدى في حقيقة أن ذلك البلد يمثل حرفيا الحد الفاصل بين الاتحاد الأوروبي وروسيا (كلمة أوكرانيا تعني «على الحدود»).

وخلال الفترة التي تلت الحرب الباردة، كان كل رئيس يتولى حكم أوكرانيا يمثل ملمحا واحدا من الآيديولوجيات المختلفة في البلاد، لكنهم في نهاية الأمر يمثلون «الشعب» الأوكراني. ثم عانت أوكرانيا بعد ذلك من مشكلة شرعية مزمنة، كان أبرزها قرار الرئيس السابق ليونيد كوتشما في 2004 بتجهيز فيكتور يانوكوفيتش، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء في ذلك الوقت، للاستيلاء على الرئاسة، وبالتالي، الإبقاء على أوكرانيا تدور في مدار روسيا. لكن النتيجة كانت مواجهة وطنية عُرفت حينها باسم الثورة البرتقالية.

لم يكن الأمر في أوكرانيا يتعلق بمواجهات تحدث من حين لآخر بين القادة السياسيين، بل كان يتعلق بهوية البلد والقبلة التي تريد أن تولي وجهها شطرها، في وقت كان لكل مواطن رأيه الذي يختلف كليا عن رأي شريكه في الوطن. وفي هذا الوقت، اُضطر يانوكوفيتش للتقهقر بعد أن نجح زعماء المعارضة، فيكتور يوشتشينكو ويوليا تيموشنكو في حشد مناصريهم المؤيدين للاتجاه نحو الغرب، بشكل أفضل مما استطاع يانوكوفيتش وكوتشما حشد مؤيديهم في المناطق الصناعية الواقعة شرق البلاد. وكانت الثورة البرتقالية قد تحدثت بلسان فصيل واحد من الأوكرانيين، ولم يمض وقت طويل حتى دب الانقسام في أحزاب الثورة، وهو ما أظهر حالة الضعف الجوهرية التي يعاني منها نظام الحكم غير الناضج.

وعندما وصل يانوكوفيتش إلى السلطة، لم يتوان في تحصين بقائه في الحكم، فألقى القبض على تيموشنكو، وسعى لتقويض التوازن الهش في برلمان البلاد. وكان يانوكوفيتش يعتمد بشكل أساسي على الدعم الذي يأتيه من شرق أوكرانيا ومن الذين يتحدثون الروسية، بالإضافة إلى دعم موسكو. وعلى عكس ما هو متوقع، كلف الرفض المعلن على مدى عقد من الزمان للتقارب مع أوروبا يانوكوفيتش الرئاسة، وأصبحت أوكرانيا الآن أكثر انقساما من أي وقت مضى. فقد تحولت المظاهرات، التي أزاحت يانوكوفيتش عن السلطة، لتأكل نفسها، ولن يمضي وقت طويل قبل أن نرى وحدة أوكرانيا تتآكل.

وتوفر الأوهام التي يسوقها الاتحاد الأوروبي دعما لزعماء المعارضة والمواقف التي يتبنونها. غير أن الحقيقة تبقى أن الاتحاد الأوروبي لا يفهم طبيعة أوكرانيا الخاصة، التي لا تتوافق مع الاستراتيجيات التي يجري صياغتها في بروكسل. وفي الوقت الذي أظهرت موجة النشاط السياسي الأخيرة أن رفض توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي كان السبب الرئيس وراء إشعال المظاهرات المناوئة ليانوكوفيتش، يبقى ذلك الطرح موجها فقط لأولئك الذين يؤيدون التقارب مع أوروبا. كان يانوكوفيتش ديكتاتورا إداريا وكان يعارض الطرح البيروقراطي الشهير القائل بأن زيادة مشاكل البلاد هي السبب الرئيس وراء خروج الشعب إلى الشوارع ضده. ورغم ذلك كان الاتحاد الأوروبي حريصا على أن يتخذ إجراء بشأن أوكرانيا من خلال عرض الدعم المالي وتوزيع التهديدات والرشاوى هنا وهناك. لكن ذلك لا يعني أن بروكسل مهتمة بدخول أوكرانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي. من المؤكد أن بروكسل تسعى لدمج أوكرانيا في الحياة الاقتصادية الإقليمية للاتحاد الأوروبي، لكن هناك فارق كبير بين العضوية والدمج. هؤلاء الأوكرانيون الشباب، الذين نزلوا إلى الشوارع، وخاضوا معارك – وماتوا في بعض الحالات – وماتوا بسبب عدم توقيع يانوكوفيتش على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي فقدوا حياتهم هباء.

وهناك أيضا روسيا. الآن وبعد أن أعلنت مدينة سيفاستوبول أنها ستنضم إلى روسيا، وبدأت الكثير من مناطق شرق أوكرانيا في الاحتشاد ضد الواقع على الأرض، يبدو أن الصراع في أوكرانيا يتجه إلى مزيد من التصعيد. والطرف الوحيد الذي سيستفيد من كل ما يحدث في أوكرانيا هو - بلا شك - روسيا، إذ أنها ستستمر في الإبقاء على وجود قواتها البحرية في البحر الأسود، وهو ما سيساعدها في استعادة جزء مفقود من إمبراطوريتها السابقة. ورغم ذلك، تبدو روسيا هي الأخرى وقد وقعت فريسة للأوهام، فموسكو تتوهم أن الأوكرانيين سيبقون على الدوام مذعنين لإرادة قادتهم، أو أنه من الممكن إرغامهم على ذلك. وهذا عين الخطأ، لأن الشيء الوحيد الذي يوحد الأوكرانيين هو إحساسهم القوي بسلطة الشعب التي ينبغي أن يحترمها أي حاكم للبلاد. فالأوكرانيون ليسوا من نوع الشعوب الخنوعة أو المنهزمة، فعزيمتهم وإصرارهم على تحقيق ما يريدون ليس لهما مثيل في المنطقة بأكملها.

وتبقى المشكلة، بالطبع، هي الرؤى المختلفة والمتنافسة بشأن وضع أوكرانيا. فلو أن الأوكرانيين اتفقوا على العمل كوحدة واحدة، فسوف يستطيعون التغلب بسهولة على أي عائق يعترض طريقهم. لكن في بلدهم الممزق، الذي يخرج مترنحا من أسبوع كامل من العنف وعقدين من الزمان من تآكل القومية الأوكرانية، يبدو أن الأمل في تحقيق السلام الداخلي أضحى وهما هو الآخر.

* رئيس تحرير «جورنال وسط أوروبا للدراسات الاستراتيجية» ـــ خاص بـ «الشرق الأوسط»