إعادة الانتشار العسكري الفرنسي يستهدف بالدرجة الأولى الجنوب الليبي

تعاون فرنسي ـ أميركي متصاعد في بلدان الساحل الأفريقي لمحاربة الإرهاب

TT

يقول مسؤول أمني أوروبي رفيع المستوى إن بلدان الاتحاد الأوروبي «لا تريد أفغانستان جديدة على أبوابها» تهدد أمنها واستقرارها ومصالحها في الداخل الأوروبي وفي الخارج. ويضيف هذا المسؤول الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط» أن المقصود بذلك «ليس فقط سوريا»، التي تتزايد المخاوف بشأن تنامي الحركات الجهادية المتطرفة فيها، وإنما هذا «يشمل أيضا بلدان ما يسمى الساحل»، وهو الشريط الممتد من موريتانيا إلى شرق السودان وامتدادا حتى جيبوتي ويشمل مالي والنيجر والجنوب الجزائري والجنوب الليبي وشمال نيجيريا وشمال بوركينا فاسو والتشاد وحتى شمال الكاميرون. وبحسب تأكيدات هذه المصادر، فإن المصالح الأوروبية «مهددة» من قبل الجهاديين الأوروبيين الذين يعودون من ميادين القتال في الأراضي السورية، كما أنها مهددة من قبل القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وغيرها من الحركات التي تدور في فلكها في الشريط المذكور.

وللتدليل على «التوازي» في الخطر بين البؤرتين، يتعين الإشارة إلى أنه في الوقت الذي كان فيه وزراء تسعة بلدان أوروبية وشرق أوسطية بحضور مسؤولين أميركيين مجتمعين في بروكسيل لمناقشة خطة مواجهة ازدياد أعداد الجهاديين المتوجهين من الدول الأوروبية إلى سوريا وخصوصا العائدين منها، كان وزير الدفاع الفرنسي يكشف عن خطة وزارته لإعادة انتشار قواتها في أفريقيا وللتركيز على مواجهة التهديد الإرهابي فيها. وفي الحالتين، تبدو باريس في صف المواجهة الأول.

تقوم الخطة الفرنسية في أفريقيا، كما عرضها الوزير جان إيف لودريان أول من أمس، على إعادة توجيه القوات الفرنسية المنتشرة في «شريط الساحل» وتكريسها لغرض واحد هو محاربة الإرهاب «من منظور إقليمي ودولي» يعتمد على شقين: الأول ذاتي تتكفل به القوات الفرنسية نفسها والثاني إقليمي دولي وعصبه الأساسي التعاون الوثيق بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وأكثر من أي وقت مضى، تعكس باريس وواشنطن صورة «شرطي أفريقيا» المولج الحفاظ على الأمن والاستقرار وبداية محاربة تغلغل المنظمات الإرهابية ومقاتلتها ومحاصرتها والقضاء عليها. وكان لودريان قد ذهب سابقا إلى واشنطن لعرض تصوره على المسؤولين العسكريين الأميركيين وللتفاهم على «تقاسم الأدوار» في أفريقيا.

عمليا، تريد باريس نشر 3000 جندي فرنسي في أربعة مواقع رئيسة، أولها في القاعدة العسكرية في مدينة غاو «شمال مالي»، حيث سيرابط ألف جندي فرنسي مجهزين بطوافات «تايغر» المقاتلة. وأهمية غاو أنها تقع في قلب المنطقة التي كانت تحت سيطرة القاعدة والمنظمات الجهادية المتحالفة معها قبل إطلاق العملية العسكرية الفرنسية بداية عام 2013 كما أنها تضمن الإمساك بكل الشمال المالي وتطل على الجنوب الجزائري وتقترب من الحدود الليبية. وستحتفظ باريس في مدينة تساليت، الواقعة شمال غاو بقاعدة متقدمة في وسط المثلث الجزائري الموريتاني المالي. أما القاعدة الرئيسية الثانية فهي للقوات الخاصة الفرنسية المتمركزة قريبا من واغادوغو «عاصمة بوركينا فاسو»، وهي جاهزة للتحرك في أية لحظة بفضل الوسائل اللوجيستية الموضوع بتصرفها. وكانت القوات الخاصة أول الوحدات التي أرسلتها باريس العام الماضي إلى مالي. ومن جانبها، ستستضيف نيامي «عاصمة النيجر» مقر الاستطلاع والمخابرات الفرنسي المجهز بقاعدة قيادة وتحكم وبطائرات استطلاع من غير طيار من طراز ريبر وهارفانغ التي اشترتها باريس مؤخرا من الولايات المتحدة الأميركية. أما القاعدة الأخيرة فمقرها نجامينا «عاصمة التشاد»، التي سيرابط فيها 1200 جندي فضلا عن طائرات رافال وميراج 2000 المقاتلة وطائرات التزويد بالوقود. وستبقى باريس على الموقع العسكري المتقدم القائم في مدينة فايا لارجو التشادية القريبة من الحدود مع ليبيا. وتفيد المصادر الفرنسية أن لو دريان قد أبرم اتفاقات وتفاهمات مع البلدان الأفريقية المعنية بالانتشار الفرنسي الجديد وهي بلدان تقيم معها باريس علاقات دفاعية وعسكرية قديمة.

وتعتبر مصادر فرنسية أن من وظائف الانتشار الجديد «مواجهة الفوضى وغياب الدولة في الجنوب الليبي» الذي تصفه بأنه تحول إلى «منطقة رمادية» خارجة عن أية رقابة ومصدرا لكل أنواع التهديد.

يؤكد الوزير الفرنسي أن التوجه لمحاربة الإرهاب في أفريقيا «غير محكوم بسقف زمني معين»، وأن القوات الفرنسية «ستبقى طالما دعت الحاجة» في هذه المنطقة التي وصفها بأنها «منطقة المخاطر من كل الأنواع». وقبل يومين قتل جندي فرنسي من الفرقة الأجنبية شمال مالي كما جرح اثنان آخران بانفجار قنبلة مزروعة على حافة الطريق. وأمس، توجه لودريان مجددا إلى أفريقيا في زيارة ستشمل السنغال وساحل العاج، حيث سيكون ملف الإرهاب حاضرا في لقاءاته مع مسؤولي البلدين.

في الجانب الآخر، تعول باريس على تعاونها مع واشنطن، كما برز ذلك في العمليتين العسكريتين اللتين خاضتهما القوات الفرنسية في مالي ووسط أفريقيا. وتؤكد مصادر دفاعية في باريس أن للفرنسيين والأميركيين «الأهداف نفسها» في أفريقيا وأنهم قاموا بما يسمى «تقاسم ذكي للأدوار جغرافيا»، حيث تهتم باريس بأفريقيا الغربية فيما أخذت واشنطن على عاتقها أفريقيا الشرقية. ويرى الفرنسيون أن التعاون مع الجانب الأميركي «لا بد منه» في ميدان الاستعلام الإلكتروني والرقابة والإمداد والتخطيط وتبادل المعلومات والتجهيزات والإمكانيات اللوجيستية. ومؤخرا اشترت باريس طائرتين من غير طيار، تشتغلان من نيامي وهما قادرتان على تغطية كامل منطقة الساحل.

وتعول واشنطن على مرابطة 2000 جندي وعدد غير معروف من القوات الخاصة إضافة إلى 2000 جندي آخرين يرابطون في القاعدة الأميركية في جيبوتي التي وسعت لتستوعب خمسة آلاف جندي. وبحسب الشهادة التي أدلى بها الجنرال ديفيد رودريغيز أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ في 6 مارس (آذار) الماضي، فإن القوة الأفريقية الأميركية التي يقودها «قامت في عام 2013 بـ55 عملية وبعشرة تمارين وبـ481 عملا عسكريا بالاشتراك مع أطراف أخرى في الميدان الأمني». وأحد أبرز هذه الأعمال القبض على القيادي في القاعدة أبو أنس الليبي في شهر أكتوبر (تشرين الأول) وإخراجه من ليبيا إلى الولايات المتحدة.