قادة أوروبا يجتمعون اليوم بعد الزلزال الانتخابي.. والصدمة الكبرى في فرنسا

اليمين المتطرف يكتسح الاقتراع في دول عدة ويرسم خريطة جديدة للبرلمان الأوروبي

امرأتان تحمل إحداهما رضيعا تمران أمام صورة دعائية لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن في مدينة دونين بشمال فرنسا أمس (أ.ف.ب)
TT

تلقى القادة الأوروبيون بقلق شديد الصعود التاريخي للمناهضين للبناء الأوروبي خلال الانتخابات الأوروبية التي انتهت أول من أمس، وقرروا الالتقاء مساء اليوم في بروكسل لاستعراض الوضع وتحليل نتائج الاقتراع، الذي تميز برفض للمؤسسات الأوروبية والنخب الوطنية الحاكمة.

وشهد الاقتراع الأوروبي تقدما كبيرا لقوى اليمين المتطرف ترجمه - خصوصا - النصر المبين للجبهة الوطنية (أقصى اليمين) في فرنسا، حيث شكل هذا الفوز زلزالا سياسيا وجعل حزب أقصى اليمين القوة السياسية الأولى في البلاد. وحل اليسار الحكومي الفرنسي في المرتبة الثالثة بعد اليمين المتطرف (الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبن) وحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية (اليمين التقليدي). ولأول مرة في تاريخ الانتخابات الأوروبية «يخطف» اليمين المتطرف في فرنسا المرتبة الأولى بحصوله على 26 في المائة من أصوات الناخبين وعلى 24 مقعدا (من أصل 74 مقعدا).

مع هذه النسب يكون حزب لوبن، المرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية قد تحول إلى أول حزب سياسي في فرنسا.. الأمر الذي يجعل من هذا البلد حالة فريدة من نوعها من بين بلدان الاتحاد الأوروبي الـ28. وما يزيد من وقع «المأساة» أن فرنسا تشكل مع ألمانيا محرك الاتحاد التاريخي وتصدر الجبهة الوطنية التي تدعو للخروج من منطقة اليورو والعودة إلى الفرنك الفرنسي وإعادة الرقابة على الحدود و«استعادة السيادة» وتشديد سياسة الهجرة من شأنه إضعاف الحكومة الفرنسية سياسيا في مواجهة البلدان الأوروبية الكبرى وعلى رأسها ألمانيا.

بيد أن فداحة الهزيمة للرئيس والحكومة الاشتراكيتين أن الحزب الاشتراكي هبط إلى نسبة لم يعرفها أبدا في تاريخه الانتخابي الأوروبي، إذ إنه فشل في الوصول إلى 14 في المائة من الأصوات أي نحو نصف ما حصلت عليه الجبهة الوطنية. وتراجعت مقاعد الاشتراكيين وحلفائهم إلى 13 مقعدا. وبعد هزيمة الانتخابات البلدية قبل شهرين، تأتي هذه الضربة لتجهز على الاشتراكيين وتكبل يدي الرئيس فرنسوا هولاند ورئيس حكومته مانويل فالس. وسارع الأخير إلى القول إنه «لن يقدم استقالة حكومته» كما طالبت مارين لوبن، وأنه «لن يغير خريطة الطريق» التي تسير عليها منذ تعيينه في منصبه باعتبارها الوسيلة الوحيدة فيما سارع الأول إلى الدعوة لاجتماع طارئ عقد صباح أمس في قصر الإليزيه من أجل «استخلاص النتائج».

وكان لافتا أن مسؤولا في الحكومة الإسرائيلية قال أمس إن مارين لوبن ما زالت تخضع لمقاطعة رسمية إسرائيلية، رغم فوز حزبها اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية.

وفي بريطانيا، حقق حزب «الاستقلال» (يوكيب) المناهض للفكرة الأوروبية نتيجة تاريخية بفوزه بنسبة 27.49 في المائة من الأصوات، متقدما على حزب العمال (25.4 في المائة) الذي يمثل المعارضة الرئيسة وعلى حزب المحافظين (23.93 في المائة) الذي يتزعم الائتلاف الحاكم. وفي ألمانيا التي تملك أكبر عدد من النواب في البرلمان الأوروبي (96 نائبا) حل المحافظون بقيادة أنجيلا ميركل في الطليعة. لكن الحزب الجديد المناهض لليورو «إيه إف دي» والذي تأسس في ربيع 2013 ويدعو إلى إلغاء العملة الأوروبية الموحدة، سيسجل دخوله للبرلمان مع 6.5 في المائة من الأصوات. كما حقق الاشتراكيون الديمقراطيون تقدما كبيرا بحصولهم على 27.5 في المائة من الأصوات. وفي اليونان البلد الذي يعاني بشدة من سياسة التقشف، حل حزب اليسار المتشدد سيريزا بقيادة ألكسيس تسيبراس في الطليعة، متقدما بشكل طفيف على حزب الديمقراطية الجديدة اليميني الحاكم. وفي النمسا سجل حزب اليمين المتطرف «إف بي أو»، الذي يأمل في تشكيل كتلة مع الجبهة الوطنية، تقدما واضحا وحل ثالثا مع 19.9 في المائة من الأصوات محققا تقدما بخمسة في المائة مقارنة مع انتخابات 2009، ويأتي خلف المسيحيين الديمقراطيين والاشتراكيين الديمقراطيين الموجودين في الحكم.

وإذا كان حزب «بي في في» المعادي للإسلام في هولندا قد مني بهزيمة، حيث لن يحصل إلا على 12 في المائة من الأصوات مقابل 18 في المائة قبل خمس سنوات، فإن تحدي الفكرة الأوروبية يمكن أن يترجم من خلال الشعبوي بيبي غريلو في إيطاليا التي تملك 73 نائبا. وفي رومانيا (32 نائبا) يبدو أن المشهد السياسي مختلف، حيث يتوقع أن يحقق ائتلاف وسط اليسار فوزا كبيرا ويحصل على 41 في المائة من الأصوات.

وقال جان دومنيك غويلياني رئيس مؤسسة روبرت شومان إن التشكك في جدوى الفكرة الأوروبية «يعزز من خلال تصويت عقابي ضد الأحزاب الحاكمة». وقالت كريستينا بيريز (36 عاما) وهي تدلي بصوتها في مكتب بمدريد «الأمور كلها سيئة أصوت من أجل القطع مع الحزبين الكبيرين (المحافظ والاشتراكي) وخصوصا ضد الفساد في إسبانيا، أنا غاضبة». ولكن إسبانيا والبرتغال اللتين تأثرتا بشدة بالأزمة بدتا محافظتين على التصويت للأحزاب التقليدية.

وتزامن صعود القوى المتطرفة مع ارتفاع طفيف في نسبة المشاركة. ورغم توقعات بأن تكون ضعيفة، فإن نسبة المشاركة شهدت ارتفاعا في كثير من الدول الكبرى، خصوصا في فرنسا وألمانيا.

ومن المقرر أن يجتمع القادة الأوروبيون مساء اليوم في بروكسل لاستعراض الوضع وتحليل نتائج الاقتراع، الذي تميز برفض للمؤسسات الأوروبية والنخب الوطنية الحاكمة. وقال وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير عبر التلفزيون الألماني أمس «إن الكثير من الأحزاب الشعبوية والمشككة بأوروبا أو حتى القومية ستدخل إلى البرلمان الأوروبي. في بعض الدول ربما ليس الوضع كما كان يخشى. لكن في فرنسا، فإنه بالطبع مؤشر خطير مع (صعود) الجبهة الوطنية». وعبر رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس عن «اقتناعه بأن أوروبا يمكن أن يعاد توجيهها لدعم النمو وسوق العمل بشكل أكبر مما تفعله منذ سنوات».

وغداة الانتخابات التي قاطعها أكثر من ناخب أوروبي من كل اثنين، يبدو البرلمان الأوروبي أكثر تجزئة من أي وقت مضى. فصحيح أن الأحزاب الكبرى المؤيدة لأوروبا ما زالت تشكل الغالبية، لكنها فقدت جميعها بعضا من قوتها. فأول تكتل من حيث النواب «الحزب الشعبي الأوروبي»، الذي يضم الأحزاب الديمقراطية المسيحية ووسط اليمين نال 214 مقعدا، أي أقل بـ59 مقعدا من البرلمان المنتهية ولايته. والاشتراكيون والاشتراكيون الديمقراطيون خسروا سبعة مقاعد خصوصا بسبب هزيمة الاشتراكيين الفرنسيين ولم يتفادوا الغرق سوى بفضل النتائج الجيدة التي حققها الحزب الديمقراطي بزعامة ماتيو رينزي في إيطاليا.

كذلك الأحزاب الأخرى المؤيدة لأوروبا سجلت تراجعا. فبحصولهم على 66 مقعدا يكون الليبراليون خسروا 17 من ممثليهم. أما الخضر فتمكنوا بنيلهم 52 مقعدا من الحد من خسارتهم، على الرغم من النتائج السيئة التي كانت من نصيب المدافعين عن البيئة في فرنسا، ولم يخسروا سوى خمسة مقاعد. كذلك، فإن اليسار الراديكالي الذي على غرار المحافظين والاشتراكيين والليبراليين والخضر، لعب على وتر تحديث المؤسسات بتقديمه مرشحا إلى رئاسة المفوضية، وحسن حضوره في البرلمان بفضل نجاح لائحة سيريزا في اليونان وكسب سبعة نواب بحصوله على 42 مقعدا.

وتحظى الأحزاب المؤيدة لأوروبا على الورق بغالبية 521 مقعدا (من أصل 751) لكنها تخرج من الانتخابات الأوروبية مزعزعة إلى حد كبير، وربما غير قادرة على استعادة زمام الأمور. ففي غياب غالبية حقيقية بعد اقتراع الأحد، من المرجح أن تستفيد الدول من هذا الوضع للحفاظ على صلاحياتها.

فرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أبدى على الدوام معارضته لإمكانية أن يختار البرلمان الرئيس المقبل للمفوضية الأوروبية. وفوز المناهضين لأوروبا في حزب يوكيب بزعامة نايجل فاراج في بريطانيا من شأنه أن يدعم رغبته في عدم السماح للبرلمان بأن يكون له اليد الطولى في هذه المسألة. وعندما سئل أمس أثناء مؤتمر صحافي ما إذا كانت لديه رسالة ليوجهها إلى كاميرون، قال المرشح الرسمي للحزب الشعبي الأوروبي، جان كلود يونكر (لوكسمبورغ)، الذي يعد صاحب نزعة «فيدرالية» في نظر البريطانيين، بجفاء «لن أجثو أمام أي قائد. إنني فائز في الانتخابات».

إلا أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تعد أكثر من أي وقت مضى القائدة الوحيدة لأوروبا، لم تبد مطلقا أي حماسة كبيرة لفكرة تقوية البرلمان والمفوضية على حساب الدول. وقد تغتنم الوضع لفرض مرشحها أو مرشحتها. وعبرت ميركل أمس عن ابتهاجها لـ«النتيجة القوية» التي حققها المحافظون وأكدت أنها ستجري «محادثات» لتعيين رئيس جديد للمفوضية الأوروبية.

وفي رسالته لدعوة القادة الأوروبيين، حذر رئيس المجلس الأوروبي (الهيئة التي تمثل الدول الأوروبية في بروكسل) هرمان فان رومبوي من أنه سيكون «من المبكر جدا اتخاذ قرار لاقتراح أسماء لرئاسة المفوضية الأوروبية». لكن ليس هناك شك أن رؤساء الدول والحكومات سيبحثون سرا في اجتماعهم المغلق في أسماء مرشحي تسوية من صفوف اليسار الليبرالي أو اليمين الاجتماعي. وتتردد أسماء مثل مديرة صندوق النقد الأوروبي كريستين لاغارد أو رئيسة الوزراء الدنماركية هيلي ثورنينغ شميت.

وتوصي معاهدة لشبونة التي دخلت حيز التنفيذ مطلع عام 2010 القادة الأوروبيين بأن «يأخذوا في الاعتبار نتائج الانتخابات الأوروبية» في اختيارهم رئيسا للمفوضية. لكن المجلس الأوروبي والبرلمان لا يفسران هذه التوصية بالطريقة نفسها. فبالنسبة للبرلمان الأوروبي، من الواضح أن الناخبين مدعوون ليس لاختيار نوابهم فحسب، بل وأيضا بطريقة غير مباشرة الرئيس المقبل للمفوضية أي، يونكر بالنسبة للحزب الأوروبي الشعبي، أو الألماني مارتن شولتز بالنسبة للاشتراكيين أو البلجيكي غي فرهوفستات بالنسبة لليبراليين أو الألمانية سكا كيلر بالنسبة للمدافعين عن البيئة واليوناني إلكسي تسيبراس بالنسبة لليسار الراديكالي.

فهؤلاء القادة قاموا بحملة شرحوا فيها للناخبين أنه في حال فوزهم سيصبح أحدهم رئيسا للمفوضية الأوروبية. وشدد يونكر أمس في تغريدة على أن فوز حزبه يعطيه «الحق والأولوية للسعي إلى تشكيل غالبية في البرلمان والمجلس». غير أن هذا الوعد قد يتبخر، والمناهضون لأوروبا الذين بمقدورهم إنشاء كتلتين في البرلمان، أحدهما وراء فاراج، والآخر وراء الفرنسية مارين لوبن، التي أصبح حزبها الجبهة الوطنية أول حزب في فرنسا، قد يستفيدون من الوضع للتنديد بالتباعد بين الكلمات والأفعال عندما يتعلق الأمر بأوروبا.