الانتخابات السورية «صورية» لكنها تكشف عن حجم الاستقطاب الصارخ في البلاد

مخاوف من أن يسعى الأسد بعدها إلى استعادة كل المناطق المحررة

TT

لم يتوقع كثير من الناس، سواء داخل سوريا أو خارجها، أن تسفر الانتخابات الرئاسية السورية عن مفاجآت. «إنها انتخابات صورية»، هكذا قال لي أحد الخبراء البريطانيين المعنيين بشؤون الشرق الأوسط قبل بضعة أسابيع عندما كنا نتناقش حول التصويت المقبل في البلاد. ولكنه استطرد قائلا: «لكنها انتخابات صورية مهمة».

لا شيء يمكن أن يكون أكثر صدقا مما قاله هذا الخبير. فمع بدء التصويت يوم الأربعاء الماضي للسوريين المقيمين في الخارج، وإدلاء أولئك الذين يعيشون في المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام داخل البلاد بأصواتهم أمس، تكشفت الأحداث الحالية خلال أسبوع الانتخابات السورية بشكل واضح عن الدمار الذي أصاب البلاد وألقى بظلاله على شعبها المحاصر جراء الاستقطاب الصارخ، الذي أسفرت عنه ثلاث سنوات من الصراع الحاد. ومما يدل على ذلك استخدام رجل من بين المصوتين، في مركز الاقتراع ببيروت، دمه من أجل التصويت لبشار الأسد، وذلك طبقا لما أفادت به بعض التقارير. وفي الوقت نفسه، نظم نشطاء المعارضة، في القرى والبلدات والمدن التي تقع في مناطق يسيطر عليها الثوار، سلسلة من الاحتجاجات الصاخبة ضد ما وصفوه «بانتخابات الدم» بقيادة الأسد. وفي بلد غارق في الدماء على مدى السنوات الثلاث الماضية، بدت رمزية الانتخابات مناسبة في كلتا الحالتين.

وحينما نمعن النظر في هذه الانتخابات نجد أن كل تفاصيلها صممت للتأكيد على أن أولئك الذين يؤيدون النظام هم من يحابيهم النظام، وأولئك الذين يكرهونه سيجري إقصاؤهم. وكمثال آخر على الاستقطاب خارج سوريا ما حدث في العاصمة الأرمينية يريفان، التي لجأ إليها ما بين عشرة آلاف و15 ألف سوري - أرميني كلهم من المسيحيين، وعدد كبير منهم من الطبقة الوسطى ويمثلون أغلبية ساحقة مؤيدة للنظام، إذ فتحت السفارة السورية أبوابها للتصويت. بينما في تركيا، وهي بلد مجاور تأوي أكثر من مليون لاجئ سوري، لم يتوفر صندوق اقتراع واحد بها. ولكن لم يكن ذلك مستغربا، بالنظر إلى أن معظم السوريين هناك من السنة الذين هربوا من المدن والبلدات الشمالية التي سحقها الأسد. هذا ولم يسمح لأي من السوريين الذين غادروا البلاد دون جوازات سفرهم أو عبر الحدود التي تسيطر عليها المعارضة - والفقراء المعدمين، والمنشقين من الجيش، والمدرجين في القوائم السوداء - بتسجيل أسمائهم من أجل التصويت.

«لم نكن نعتقد أن الأسد سيجري الانتخابات إلا عندما أعلن عنها»، هذا ما قاله يحيى العلاوي، الذي كان يمتلك مطعما في إدلب قبل أن يغادر خالي الوفاض بعد أن دُمِر بيته ومحل عمله. كما أضاف قائلا: «لا أستطيع أن أصف الشعور الذي انتابني عندما سمعت أنه من المقرر أن تكون هناك انتخابات. إن الأمر سخيف ومحزن للغاية، في ضوء ما حدث في سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية».

ومثل مئات الآلاف من السوريين الآخرين الذين فقدوا كل شيء، انتقل يحيى بعائلته إلى محافظة هاتاي التركية، المجاورة لسوريا على الطرف الغربي من المنطقة الحدودية. يجني يحيى من عمله الجديد، في مطعم بمدينة الريحانية، 750 ليرة تركية شهريا، ينفق منها 400 ليرة على الإيجار. وعند سؤاله عن الانتخابات، قال يحيى إنه لم يكن ليشارك بإدلاء صوته حتى لو كانت الحكومة السورية نظمت التصويت في تركيا. وبالنسبة للسوريين أمثال يحيى، كان مجرد طلب مشاركتهم في الانتخابات من شأنه أن يزيد من حجم الضرر الواقع عليهم بالفعل. وأردف قائلا: «إنه من الجيد أن الانتخابات لم تجر في تركيا. وكان ينبغي على جميع الدول أن تفعل الشيء نفسه. لا يجب أن يساعد أي شخص النظام على إقامة هذه الانتخابات».

وفي حصر الانتخابات في الأماكن التي لا تزال تحت سيطرته ويحظى فيها باحترام، فرض الأسد سيطرته على هذا العمل السياسي المسرحي تماما، وبنفس القدر من البراعة التي تمثلت في استعادته بعض الأراضي في الأسابيع الأخيرة. وسواء بمحض الصدفة أو بتضافر الجهود العسكرية، عقدت الانتخابات في الوقت الذي كان يبدو فيه أن الأسد له اليد العليا الحاسمة في ميدان المعركة. خلال الشهر الماضي استعادت قواته معقلا للثوار في حمص ويبدو أن قواته طوقت المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب. وفي المناطق الشمالية الشرقية الغنية بالنفط، يخوض الثوار غمار معركة أخرى في جبهة ثانية ضد الجماعات الإسلامية الانتهازية التي تستغل الفوضى للاستيلاء على موارد البلاد.

واستكمالا لهذا المشهد يروي أبو فهد، وهو أب لأربعة أبناء، ويدير محل بقالة صغير في الريحانية، ببالغ الأسى والغضب كيف استعاد النظام المدينة القديمة في حمص من المعارضة الشهر الماضي، معقبا بأن منزله وعمله كانا دائما هناك، ولكن الآن لم يبق أي شيء جراء القصف العنيف الذي شنته قوات النظام على مدار عامين.

وفي تعقيبه على إجراء الانتخابات قال أبو فهد: «لو تبقى لبشار أي ذرة من الإنسانية، لم يكن ليقيم هذه الانتخابات بعد تلك الأحداث»، مضيفا: «إنه دمّر كل شيء. دمّر عائلاتنا. نحن هنا لاجئون فكيف ينبغي لنا أن نقبل هذا؟».

من الجانب العملي، تعد نتائج الانتخابات بالكاد ذات أهمية في هذا السياق. ولكن على الجانب النفسي، فهي تعني كل شيء.

ويقول تشارلز ليست، الخبير في الشؤون السورية بمعهد بروكينغز، لـ«الشرق الأوسط»، إن «مضمون الانتخابات أقل أهمية، بيد أن رمزيتها بالنسبة لجانبي الصراع هي المهمة، فهي تمثل بالنسبة لمؤيدي الأسد، تأكيدا على استمرار شرعيته».

وقال يحيى إنه كان يعتقد أن الآثار التي قد تنجم عن فوز الأسد، ستكون أبعد بكثير من كونها آثارا ملموسة». وأضاف: «بطبيعة الحال إذا فاز الأسد، سيحاول استعادة كل المناطق المحررة»، موضحا أنه «سوف يقتل المزيد من الناس».

وقد ادعى أنصار الأسد أن هذه المنافسة كانت خطوة حقيقية نحو الديمقراطية، في إشارة إلى أن هذه هي أول انتخابات رئاسية منذ تولي والد بشار، حافظ الأسد، السلطة في عام 1970، والتي أتيح فيها للسوريين البسطاء الاختيار من بين المرشحين. وفي انتخابات سابقة، كان يمكن للناخبين التصويت إما بـ«نعم» أو «لا» في استفتاء على الرئيس الموجود؛ كما حدث في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في عام 2007، وفاز فيها الأسد بتأييد بلغت نسبته 98 في المائة.

وقد بدا جليا من خلال مشاهد الفوضى التي رصدت يوم الاقتراع في السفارة السورية ببيروت، أن جزءا كبيرا من السوريين يعتقدون أن الأسد هو الخيار الأفضل إلى الأبد، وليس في الوقت الراهن، بل ويرون أنه الخيار الوحيد.

وفي هذا السياق يقول جوشوا لانديس، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط، بأن تلك الحشود كانت أكثر رمزية وأهمية من نتيجة الانتخابات ذاتها. وأضاف في تصريحه لصحيفة «الشرق الأوسط»: «هذه الانتخابات ليس لها علاقة بالديمقراطية، وإنما هي سعيا للزعامة. لا يهم حقا إذا كان المادحون صادقين في محبتهم، فيكفي إثبات أن الرجل العظيم يستطيع أن يجعلهم ينتفضون بأعداد كبيرة لإظهار مدى تفانيهم».

وإذا كانت هذا السعي من جانب الأسد لإظهار روح الديمقراطية، فهي محاولة ضعيفة. وكان المرشحان المعارضان له، واللذان تم اختيارهما من بين 24 مرشحا ممن سجلوا في البداية، غير معروفين في الواقع.

وتعقيبا على ذلك، قال الدكتور أبو علي، الذي يعمل طبيبا جراحا بالمستشفى الميداني في إدلب منذ بدء النزاع المسلح، إن «المرشحين الآخرين كانا من أنصار بشار»، حسب تعبيره بأن «الأمر يبدو كخدعة. وإذا ذهبت إلى المناطق الخاضعة لنفوذ النظام، فلن ترى أي ملصقات للحملتين الانتخابيتين لهذين المرشحين، ستجد فقط صور بشار».

ليست هذه هي الديمقراطية التي كان المتظاهرون يأملون في تحقيقها عندما خرجوا إلى الشوارع قبل ثلاث سنوات طويلة. ومنذ ذلك الحين، وبطبيعة الحال، غمر تلك الاحتجاجات التمرد المسلح، الذي تحول بعد ذلك إلى حرب أهلية بشعة والتي تبدو مستعصية على الحل. ولكن خلال الأسابيع القليلة الماضية، أخذ الناشطون المدنيون مرة أخرى زمام المبادرة باعتبارهم صوت المعارضة.

قال سامي، أحد مؤسسي حملة «لا تصوت، ارفع صوتك» التي أقيمت عبر شبكات التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع التي سبقت الانتخابات، في حديثه عبر «سكايب» قبل يومين من بدء الاقتراع: «إن تحويل الأمر إلى نزاع مسلح كان واحدا من أكثر الأخطاء القاتلة للثورة». وحث أعضاء الحملة، التي يديرها ناشطون مدنيون من داخل دمشق في سرية تامة، السوريين الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها النظام على الامتناع عن التصويت كشكل من أشكال الاحتجاج على الانتخابات الرئاسية التي يشوبها عيوب كثيرة. ومن خلال الأسلوب والرسالة التي تؤديها الحملة، فإنها أعادت للأذهان الأيام الأولى للانتفاضة.

وأكد سامي قائلا: «إن بديل الأسد هو المعارضة معتدلة، وليس المعارضة المسلحة المعتدلة، ولكنها المعارضة المعتدلة التي حافظت على برنامجها ومسارها السياسيين، ودعت دائما إلى إيجاد حل سلمي». وأضاف: «هذا هو الطريق الذي لا بد من السير فيه، لأننا نعرف أن الصراع المسلح لن يؤدي إلى أي شيء إيجابي. فلن تستطيع الحكومة ولا المعارضة النجاح عسكريا».

فضلا عن ذلك، أجريت هذه الانتخابات في ظل أغرب وأبشع ظروف. ففي الوقت الذي أسقطت فيه أول بطاقة تصويت في صناديق الاقتراع، واصلت قوات النظام إلقاء البراميل المتفجرة على حلب، واستمر اللاجئون في التدفق عبر الحدود. إن المحرومين من التصويت هم أيضا النازحون، والمحبطون، الذين تدمرت حياتهم، هم أنفسهم الذين فقدوا الكثير على يد الأسد خلال السنوات الثلاث الماضية.

ويُنهي أبو علي حديثه متسائلا: «إذا كان لديك رئيس مثل بشار، هل ستنتخبه مرة أخرى؟». ويرد متسائلا: «كيف يمكن أن أصوت لقاتلي؟».