توافق بين رئيسي روسيا وأوكرانيا على وقف النار.. والتفاصيل تبحث في الأيام المقبلة

أوباما وبوتين التقيا سريعا على هامش احتفالات النورماندي.. وهولاند لعب دور «الوسيط»

الرئيس الأوكراني المنتخب بوروشينكو (وسط) ينظر إلى الرئيس الروسي بوتين وتبدو بينهما المستشارة الألمانية ميركل على هامش الاحتفال بذكرى الإنزال في النورماندي أمس (رويترز)
TT

أسوأ السيناريوهات في السياسة ليست بالضرورة هي التي تتحقق. والدليل ما حصل يوم أمس على شواطئ النورماندي الفرنسية التي استضافت عشرين رئيس دولة وحكومة بمناسبة الاحتفالات بالذكرى السبعين لعميلة الإنزال على هذه الشواطئ التي عجلت بهزيمة ألمانيا النازية وإنهاء الحرب العالمية الثانية. فالتوقعات كانت أن هذه الاحتفالات التي شارك فيها كبار هذا العالم، ومنهم الرئيس الأميركي باراك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورؤساء وزراء كندا وأستراليا والدنمارك واليونان وبولندا والتشيك وغيرها، لن تأتي بجديد بالنسبة للقضية الأوكرانية التي تعد أكبر أزمة تهز أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة.

الرئيس الأميركي طلب من البروتوكول الفرنسي أن يتخذ التدابير الضرورية حتى لا يلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغائب - الحاضر الذي أمهله «ثلاثة أسابيع أو أربعة» قبل فرض عقوبات اقتصادية أقوى على بلاده. ورد بوتين «التحية» بأحسن منها عندما اتهم واشنطن بـ«الكذب»، مذكرا إياها بادعاءاتها حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر عليها بتاتا. كما أن حظوظ الالتقاء بين بوتين والرئيس الأوكراني الجديد بيترو بوروشينكو الذي لم تعترف موسكو بعد بشرعيته رسميا كانت ضعيفة للغاية. وباختصار، كان الجميع يتوقع أن ترخي الحرب في أوكرانيا بظلالها على هذه الاحتفالية التي أرادتها فرنسا «استثنائية».

في الكلمة الرسمية التي ألقاها أمس، أعرب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عن أمله أن «يخدم هذا الحدث العالمي الرئيس مصلحة السلام في العالم»، في إشارة منه للفرصة التي يوفرها للقاءات ممكنة بين كبار العالم. وكان هولاند قد بذل «تضحية» ذات معنى، إذ قبل أن يتناول العشاء ليل الخميس - الجمعة مرتين، الأولى مع الرئيس الأميركي أوباما في أحد المطاعم الباريسية الشهيرة، والثاني في قصر الإليزيه مع الزعيم الروسي بوتين. وحتى ظهر أمس، كانت المصادر الفرنسية تستبعد لقاء بوتين - أوباما بسبب تشدد الثاني الذي جاء إلى أوروبا ليطمئن حلفاء واشنطن إلى أنه «لن يتخلى» عن بلدان أوروبا الشرقية ولن يتركها لقمة سائغة لـ«الدب الروسي».

لكن الأمر المستبعد حصل. فأوباما وبوتين لم يتصافحا فقط، بل إنهما أجريا محادثات «جانبية» لا شك أنه جرى ترتيبها أمس في اللقاء الذي عقد بين وزيري خارجية بلديهما جون كيري وسيرغي لافروف في أحد الفنادق الباريسية الكبرى. ونقلت أوساط الثاني أن الوزيرين «أعربا عن رغبتهما في العمل معا والتعاون من أجل السلام والاستقرار في أوكرانيا». لكن أطرافا أخرى ساهمت في تحقيق اللقاء، ومنها المستشارة الألمانية ميركل التي التقت بوتين في منتجع دوفيل الواقع في منطقة النورماندي، وكذلك رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي اجتمع به الخميس في أحد صالونات مطار شارل ديغول - رواسي لدى وصولهما في الوقت عينه إلى العاصمة الفرنسية.

بدا واضحا أمس أن «نجم» التجمع الدولي كان بلا منازع الرئيس بوتين الذي عاد خلال اليومين الماضيين إلى واجهة الأحداث العالمية بعد «عزلة» دبلوماسية زادت على الشهرين وتسبب فيها ضمه لشبه جزيرة القرم في سرعة قياسية لم يستطع خلالها الغربيون التقاط أنفاسهم. لقد طرد من «مجموعة الثماني»، لكنه عاد من بوابة الاحتفالات الفرنسية، بل إنه أبدى «مرونة» بقبوله الاجتماع بالرئيس الأوكراني الجديد. وهذا بالفعل ما حصل بعد ظهر أمس، بل إن الطرفين أكدا على الحاجة لوقف المعارك في شرق البلاد بين قوات كييف والانفصاليين المدعومين من روسيا.

ونقلت وكالات الأخبار الروسية عن ديمتري بيسكوف، الناطق باسم بوتين، أنه «خلال لقاء قصير، اتفق بوتين وبوروشينكو على وقف إهراق الدماء في جنوب شرقي أوكرانيا في أسرع وقت». كما اتفقا على «وقف الأعمال المسلحة من الجانبين، أي من جانب القوات الأوكرانية ومن جانب أنصار الفيدرالية في أوكرانيا». وعلم من مصادر فرنسية أن هولاند هو الذي جمع بوتين وبوروشينكو بعد حفل الغداء الذي أقامه للوفود الدولية في قصر بنوفيل (النورماندي). ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن أوساط القصر أن الرجلين تصافحا «وتحادثا بشكل عادي». وأضافت الوكالة أن «تفاصيل وقف النار وخفض العنف ستجري مناقشتها في الأيام المقبلة» الأمر الذي يعني أن التفاهم بين الرئيسين «مبدئي». ووصفت المصادر الفرنسية ما تحقق بأنه «تقدم هش» وما زال دون الوصول إلى تسوية عقوبات يتعين تجاوزها، منها شكل الحكم وصلاحيات المناطق. وطالبت موسكو في السابق على لسان لافروف بقيام نظام فيدرالي موسع، الأمر الذي ترفضه كييف حتى اليوم. وحتى أمس، لم يكن بوروشينكو قد أوحى أبدا برغبته في وضع حد للعمليات العسكرية في شرق البلاد.

وكانت المستشارة الألمانية انضمت إلى الرؤساء الثلاثة (هولاند وبوتين وبوروشينكو). ومعروف أن ميركل هي المسؤولة الأوروبية الوحيدة التي يقيم معها بوتين علاقات ثقة ولها القدرة في التأثير عليه، علما بأنها تتحدث الروسية بطلاقة وأن بوتين كان مسؤولا في شبابه عن جهاز المخابرات السوفياتية في برلين الشرقية عندما كانت مقسمة.

وحتى عصر أمس، لم تكن قد تكشفت تفاصيل «الاتفاق» ولا موعد سريان وقف النار، ولا الشروط التي تمسك بها كل طرف.

وكان الغربيون قد حددوا مجموعة من الشروط منها وقف إطلاق النار ووقف تدفق المساعدات من السلاح والعتاد والرجال إلى شرق أوكرانيا من الداخل الروسي واعتراف روسيا رسميا بالرئيس الأوكراني الجديد وقبول العمل والتعاون معه وبذل الجهود الضرورية من أجل تراجع العنف وحدة القتال. ولخص ديفيد كاميرون الموقف الغربي بعد لقائه بوتين بقوله إن «الوضع القائم كما جمد اليوم لم يعد مقبولا؛ إذ يتعين على روسيا أن تعترف بالرئيس الأوكراني الجديد وأن تتعاون معه كما نحن بحاجة لخفض مستوى العنف».

وفي سياق ما عرفته قمة مجموعة السبع، أشهر الأوروبيون سيف العقوبات على روسيا وتوعدوا بتشديدها وتطبيق ما يسمى «المرحلة الثالثة» منها بمناسبة قمة الـ28 في 26 و27 الجاري في بروكسل التي تستهدف ليس الأفراد بل قطاعات اقتصادية ومالية روسية واسعة. أما أوباما، فقد حذر من أنه «إذا استمرت الاستفزازات الروسية، فمن الواضح أن دول مجموعة السبع جاهزة لإجبار موسكو على دفع أثمان إضافية» بسبب سياستها في أوكرانيا. ولا تقتصر هموم الغربيين على الوضع العسكري في شرق أوكرانيا، بل تتناول تهديدات شركة «غازبروم» الروسية بوقف إمدادات الغاز لأوكرانيا يوم 10 يونيو (حزيران) الحالي إذا لم تبادر الأخيرة إلى تسديد الديون المستحقة عليها والبالغة ثلاثة مليارات دولار.

بيد أن هذه الصورة السوداء ربما بدأت تتغير بفضل الخطوات التي تحققت أمس. وجاء نبأ الاجتماع الذي تقرر بين وزراء خارجية روسيا وبولندا وألمانيا يوم الثلاثاء المقبل في مدينة سان بطرسبرغ دليلا إضافيا على احتمال دخول الأزمة الأوكرانية مرحلة جديدة من غير أن يعني حتما الدخول في مرحلة الحل.