محكمة الحريري تحسم الأدلة العلمية وتتوغل في الوقائع السياسية وتستمع لجنبلاط والسنيورة

خبير بالقانون الدولي لـ «الشرق الأوسط» : شهادة النائب مروان حمادة أدخلت عناصر جديدة ستطيل أمد المحاكمات

TT

اجتازت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جلستها الأخيرة الأسبوع الماضي منتصف الطريق في مسيرة المحاكمات الغيابية لـ5 من كوادر أمن «حزب الله» متهمين بتنفيذ جريمة اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري و22 آخرين، بتفجير شاحنة مفخخة استهدفت موكب الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005 في منطقة السان جورج وسط بيروت.

المحاكمة التي انطلقت في 16 يناير (كانون الثاني) الماضي، أي بعد 9 سنوات على الجريمة، والواقعة تحت مجهر رقابة أعلى المراجع القانونية والقضائية في العالم، وفّرت لفريق الدفاع عن المتهمين كل ما يمكنه من تقديم الدفاع المطلوب عن موكليهم الفارين من العدالة، مع إعطائهم كل الوقت والحرية في الاستجوابات المضادة للشهود، مساوية بينهم وبين فريق الادعاء.

وتمكّنت هذه الهيئة القضائية من استجواب عشرات الشهود الذين قدمهم الادعاء، ومناقشة مئات الوثائق، وحسمت أن التفجير الذي استهدف الحريري حصل فوق الأرض، وبواسطة شاحنة «ميتسوبيشي كانتر» محملة بأكثر من 2800 كيلوغرام من المواد شديدة الانفجار، ونفذها انتحاري لا يزال مجهول الهوية.

ونفت الأدلة أن يكون الانتحاري هو الفلسطيني أحمد أبو عدس، الذي ظهر يوم الاغتيال في تسجيل فيديو يتبنى تنفيذ التفجير، بعدما أكدت الفحوص المخبرية التي أجريت على الأشلاء المجهولة، أن لا أثر لـ«أبو عدس» في مكان التفجير. كما أشارت الوقائع إلى حصول إهمال في التعاطي مع مسرح الجريمة، وعبث بكثير من الأدلة ورفع عينات وقطع يُفترض أن تبقى في مكانها، ومنها سيارات موكب الحريري وأجزاء صغيرة عائدة للسيارة الجانية.

وتطرقت إفادات الشهود إلى كلّ هذه الأمور، وفي مقدمهم خبراء في المتفجرات والأدلة الجينية، وأطباء في علوم الموروثات الجينية، وخبراء في علم الزلازل ومحققون ممن شاركوا في التحقيقات الأولية عملوا من ضمن فرق تحقيق من جنسيات سويسرية وهولندية وألمانية وبلجيكية، وناجون من الانفجار. وقد عرفت هذه المرحلة بمرحلة الأدلة العلمية للجريمة. وفي 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بدأت مرحلة «الأدلة السياسية» التي انطلقت بمثول عضو «اللقاء الديمقراطي» النائب مروان حمادة أمام المحكمة لتقديم شهادته التي استغرقت 9 أيام، قدّم فيها حمادة صورة كاملة عن «مرحلة الوصاية السورية على لبنان، وكيف أن القوات السورية ومخابراتها تحولت من قوة وصاية إلى قوة احتلال للبنان، ومرحلة ما سمّي تكوين القرار السياسي لاغتيال رفيق الحريري».

ويرى الأستاذ في القانون الدولي المحامي الدكتور أنطوان صفير لـ«الشرق الأوسط» أن الشهادة السياسية «فتحت نوعا من فقرة جديدة على واقع المحاكمات، هي فقرة التوثيق السياسي للجريمة، بمعنى أن ما أدلى به حمادة يخرج عن نطاق العملية الجرمية وتقنياتها، وليرسي ما يراه من أسباب سياسية أدت إلى الجريمة». وأشار إلى أنه «في القانون، لا يعول فقط على الأسباب السياسية، لأن السبب السياسي قد يكون أحد عوامل الإطار الجرمي، لكن دون تحديد المسار النهائي للجرم».

بالاستماع إلى الشهادة السياسية، يشير صفير إلى أن «هيئة المحكمة، يصبح لديها في هذا الإطار سلطة سياسية واسعة لدرس شهادة حمادة، وتدرس العلاقة السببية بين الأسباب السياسية المدلى بها، والجريمة في فبراير (شباط) 2005»، مشددا على أن شهادته «هي أكثر من رأي، لأنه أدلى بمعطيات ووقائع، لكنها أقل من إدانة فعلية، ويجب أن تقترن بأدلة جرمية، باعتبار أن ما أدلى به هو رأي لشخص عايش فترة معينة من الأزمات التي سبقت عملية الاغتيال».

وأكد أن «هذه الشهادة تفتح الطريق إلى إدانات»، معربا عن اعتقاده أنه بعد هذه الشهادة السياسية «ستكون للمحكمة مروحة واسعة من الشهادات لأشخاص ذكرهم حمادة، من الفريقين السياسيين في لبنان (8 و14 آذار)، لتدرس جدية الأسباب، ومدى ارتباطها بالعملية الجرمية». وأوضح صفير أنه «بتلك الشهادات، يكبر الموضوع من ناحية الأسباب والقرائن، مما يطيل أمد المحكمة، وربما يعقّدها، نظرا لتضاعف أعداد الأطراف المرتبطة بها».

وقال إن «ما أدلى به حمادة، سيستدعي شخصيات أخرى للإدلاء بشهادتها أمام المحكمة، وهي أسماء أتى على ذكرها من كلا الفريقين السياسيين، لأنه نسب أفعالا وأعمالا إلى شخصيات أخرى»، مشيرا إلى أن شهادة النائب وليد جنبلاط «هي جزء من الشخصيات التي ذكرها حمادة في شهادته».

لا شكّ أن حمادة الذي افتتحت معه مرحلة الاغتيالات السياسية في لبنان، عبر تفجير سيارة مفخخة استهدفت موكبه في منطقة المنارة في بيروت في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2004، يعد من أقرب المقربين إلى رفيق الحريري. فهو كان كثيرا ما يلازمه في أسفاره الخارجية ويشاركه لقاءاته السياسية في بيروت. وكان إلى حد كبير عالما بالكثير من أسراره. من هنا وُصفت إفادته بـ«المهمة»، لا سيما أنه، وعلى ضوء اعتراض فريق الدفاع عن المتهمين على استدعاء حمادة للشهادة، اعتبر رئيس المحكمة القاضي ديفيد راي في قراره الذي علل فيه قبول المحكمة سماع هذا النائب، بأن الأخير وغيره من السياسيين «قادرون على تقديم صورة واضحة عن الوضع السياسي الذي كان سائدا في لبنان في 2004 وبداية 2005. ويمكن أن تقدم خلفية واضحة وسياقا للأدلة التي يقدمها الادعاء، وتضيء على مضمون الاجتماعات بين السيد الحريري والمسؤولين السوريين، وتفسّر الظروف التي أدت إلى الاغتيال».

واعتبر راي أن «المحكمة تخوض في محاكمة طويلة ومعقدة تستدعي مئات الشهود وآلاف الوثائق، ومحاكمة يكون فيها الكثير من الأدلة الظرفية، وأهمية هذه الأدلة وإفادات الشهود لا تظهر إلا في مرحلة لاحقة عندما يتم تقييمها بعد عرضها بمجملها»، مؤكدا أن «غرفة الدرجة الأولى عاينت وراجعت الإفادات والمقابلات التي أدلى بها السيد حمادة، واعتبرت أن مضمونها يشكل أدلة تدعم الوقائع المادية الواردة في قرار الاتهام الموحد، وتحديدا تلك الأدلة المتعلقة بتحركات السيد الحريري، والاجتماعات التي كان يعقدها، ومراقبة تحركاته ما بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 و14 فبراير 2005، وتسلّط الضوء على تدهور علاقة الحريري مع السلطات السورية. وهذه الأدلة توفر معلومات عن الخلفية وتشرح لنا باقي الأدلة، كما أنها قد تزودنا بنوع من الأحداث التي سبقت عملية الاغتيال».

ولفت حمادة في شهادته الأطول في تاريخ المحاكم الوطنية والدولية، إلى أن «الحريري كان أيضا يعبّر عن معارضته للوجود السوري على المستوى الخارجي، سواء في الدول العربية أو أوروبا، وكان يعرب فيها عن تحفظاته لأصدقاء له، كالرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أو في الدوائر الأكثر خصوصية والأقرب له، أي في دول الخليج ومصر وغيرها من الدول ومع أشخاص مقربين منه، خصوصا بعدما باتت التدخلات السورية في الحياة السياسية اللبنانية قائمة في كل شاردة وواردة وكان منزعجا إلى أقصى الحدود».

الجلسات المقبلة من المحاكمة، ستحفل بكثير من المفاجآت، خصوصا أن المحكمة ستستمع إلى إفادة 14 شخصية سياسية وإعلامية من المقربين جدا من الرئيس رفيق الحريري، أبرزهم رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة والنائب وليد جنبلاط.