رئيس الحكومة الفرنسية يعد بمزيد من الإجراءات «لأن مستوى التهديد مرتفع للغاية»

كيري في باريس «يعتذر» عن الغياب الأميركي في المسيرة المليونية.. وهولاند يدعو لرد دولي «حازم وجماعي» على الإرهاب

جانب من حملة مداهمة قوات فرنسية خاصة لإحد المباني في منطقة كولومبوس احدى ضواحي باريس حيث احتجز مسلح رهائن فيه (رويترز)
TT

لم يفهم الفرنسيون الأسباب التي جعلت المسؤولين الأميركيين يتغيبون عن المسيرة «المليونية» التي سارت في باريس يوم الأحد الماضي بحضور 50 رئيس دولة وحكومة للتعبير عن التضامن مع فرنسا والوقوف إلى جانبها في مواجهة الإرهاب. وما زاد في حيرتهم أن كثيرين تذكروا يومها أن جاك شيراك، الرئيس الأسبق، كان أول رئيس دولة يذهب إلى الولايات المتحدة وإلى مدينة نيويورك تحديدا للإعراب عن وقوفها إلى جانبها بعد عملية 11 سبتمبر (أيلول) من عام 2001، وبالتالي ما الذي منع الرئيس أوباما أن يرد التحية لفرنسا بأجمل منها بعد أن عرفت هي الأخرى «11 سبتمبر»؟

المحير في الأمر أن وزير العدل الأميركي إريك هولدر جاء إلى باريس وحضر اجتماع وزراء الداخلية الـ11 الذي سبق المسيرة ببضع ساعات فقط. لكنه لم ينضم إليها وترك تمثيل الولايات المتحدة للسفيرة جين هارتلي التي سارت بضع مئات من الأمتار قبل أن تتركها.

رسميا، لم يعلق أي مسؤول فرنسي بشكل علني على «الغياب» الأميركي، لكن المصادر الفرنسية أعربت عن «دهشتها» للتقصير. وكانت دهشتها مضاعفة بسبب تعلق وزير الخارجية جون كيري بفرنسا وبعاصمتها تحديدا. فليس سرا أن كيري يحب باريس ويحرص على ضرب مواعيده الأوروبية الرسمية في فنادقها الفخمة أو في مقر سفيرة بلاده فيها الواقع على بعد رمية حجر من قصر الإليزيه. ويجيد كيري اللغة الفرنسية التي يتكلمها بلكنة أميركية واضحة. ومع ذلك، غاب كيري كما غاب رئيسه ونائبه جو بايدن أو أي مسؤول من صف وزاري. ولذا، فإن مجيئه أمس إلى باريس كان لمحو التقصير إزاء بلد صديق وحليف ضربه الإرهاب ضربة موجعة في قلب عاصمته. وهكذا بكر كيري في مواعيده: لقاء مع وزير الخارجية ثم مع رئيس الجمهورية تبعته زيارتان إلى المتجر اليهودي الكائن على مدخل باريس الجنوبي الشرقي ثم إلى موقع مكاتب «شارلي إيبدو»، وفي المرتين وضع كيري زهورا وتحاور مع الأشخاص الموجودين، ومنهم مسؤولون من الجالية اليهودية ورئيس بلدية الدائرة التاسعة. وأنهى كيري يومه التضامني بزيارة بلدية باريس ولقاء مع عمدتها آن هيدالغو تبعه خطاب من وحي المناسبة.

بيد أن ما لفت الإعلاميين والمراقبين في باريس هو «عناق» كيري للرئيس الفرنسي غير المعروف عنه عاطفيته، هولاند نزل الدرجات القليلة إلى باحة الإليزيه ليستقبل كيري، فبادره الأخير معانقا للحظات طويلة. ويبدو أن الجانب الفرنسي «ارتاح» لزيارة كيري وحرص فابيوس على القول، وفقا لما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية، إن نظيره الأميركي «اعتذر» وأبلغه أنه «تألم لغيابه عن باريس» بمناسبة مسيرة الأحد الماضي بسبب وجوده في الهند. وللرئيس الفرنسي، قال كيري إن الأميركيين «يشاركونكم حزنكم» مشيرا إلى أن فرنسا «مرة أخرى، بفضل التزامها (الدفاع) عن الحرية وتمسكها بالمثل وجهت رسالة إلى العالم». من جانبه، شدد هولاند، بعد التذكير بما عرفته الولايات المتحدة من أعمال إرهابية، على الحاجة إلى «البحث معا عن الردود الضرورية» على الإرهاب. وعمليا، يريد الطرفان البحث في المجالات والوسائل الممكنة لتوثيق التعاون الأمني بين أجهزة البلدين في سعيهما لمواجهة الإرهاب بحسب ما جاء في بيان مختصر صدر عن قصر الإليزيه. وجاء في البيان كذلك أن المسؤولين تناولا الأوضاع السورية والعراق وليبيا، وكذلك في أوكرانيا.

وكان الإرهاب «الطبق الرئيسي» في الكلمة التقليدية التي ألقاها، هولاند أمام السلك الدبلوماسي المعتمد في فرنسا. وكما في كلماته السابقة منذ السابع من يناير (كانون الثاني)، تاريخ مقتلة «شارلي إيبدو»، شدد هولاند على أن بلاده «تخوض حربا ضد الإرهاب وليس ضد أي دين»، معتبرا ن الجرائم ارتكبت باسم «آيديولوجية همجية وباسم الحقد». وطالب هولاند، بعد أن شكر السفراء ودولهم على تضامنهم مع الشعب الفرنسي، بـ«رد جماعي حاسم» لأن الأسرة الدولية «تواجه عدوا مشتركا اسمه الإرهاب».

وفي هذا السياق، دعا هولاند جميع البلدان إلى اتخاذ «التدابير الضرورية» وخص بالذكر الاتحاد الأوروبي الذي عليه أن «يشدد» من منظومته الأمنية. وتريد فرنسا أمرين ملحين: الأول، إقامة قاعدة بيانات لكل الضالعين بالإرهاب من قريب أو بعيد حتى تتمكن الأجهزة الأمنية من متابعتهم باستمرار بعد خروجهم من السجن. والثاني، أن يقر البرلمان الأوروبي قائمة البيانات الخاصة بالمسافرين الجويين من وإلى أووربا لتدارك وصول أو خروج من قد يشكل تهديدا أمنيا. وأوجز الرئيس الفرنسي فلسفته «الأمنية» بالقول، إن «أفضل الردود على الإرهاب هي العمل الجاد من أجل السلام والأمن الدوليين لأن النزاعات المستمرة هي منبع إلهام للإرهابيين ومناطق الفوضى البؤر التي يترعرعون فيها».

بيد أن هذه المواجهة، بحسب المفهوم الفرنسي الراهن، لا تقتصر فقط على المواجهة الميدانية، بل تتطلب مواجهة آيديولوجية وفكرية وتجفيف منابع الإرهاب المالية، كما أنها لا تقتصر على العواصم الأوروبية، بل يفترض أن تمتد إلى البلدان الأفريقية التي ذكر منها نيجيريا والكاميرون «بوكو حرام» والنيجر وتشاد ومالي وغيرها من بلدان الساحل وسوريا والعراق وليبيا.

ولأن سفراء الدول العربية والإسلامية كانوا من بين الحضور يوم أمس، فقد استفاد هولاند من المناسبة ليكرر مرة أخرى أن بلاده لا تحارب الإسلام والمسلمين، فمعركتها «ليست ضد دين، بل ضد الحقد» وليجدد الإشارة إلى أن المسلمين أول ضحايا الإرهاب، منبها إلى ضرورة الفصل بين الإسلام من جهة، والتشدد والإرهاب.

أما ميدانيا، فقد أتمت وزارة الدفاع نشر الـ10 آلاف جندي المولجين مساعدة القوات الأمنية في طمأنة المواطنين وحراسة المواقع الاستراتيجية والحساسة، ومنها أماكن العبادة لليهود والمسلمين. وبدأت أصوات ترتفع في فرنسا لتنبه إلى أن «المعالجة الأمنية» وحدها لموضوع إرهاب الداخل لا تكفي، بل ثمة حاجة لمعالجة شاملة تتضمن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتلافي تهميش شريحة الشباب التي في غالبيتها من أصول مهاجرة والتي لا تجد مكانا لها في المجتمع الفرنسي.

واستمر أمس احتجاز 12 شخصا أوقفوا رهن التحقيق الواسع الذي تقوم به الأجهزة الأمنية والقضائية لتوفير رؤية شاملة ودقيقة لما حصل وللأطراف الضالعة في مقتلة «شارلي إيبدو» والمتجر اليهودي. ويتشكل هذه المجموعة من 8 رجال و4 نساء. وتريد الأجهزة معرفة ما الذي قدموه للأخوين كواشي من مساعدة أو دعم لوجيستي ومالي وكشف أي علاقة كانت للـ3 مع هؤلاء أو مع غيرهم، إذ تعتقد أجهزة الشرطة، أن الأخوين كواشي، وخصوصا أحمدي كوليبالي استفادوا من تواطؤ ودعم ومساندة أشخاص آخرين في اقتناء الأسلحة الحربية التي طالت معهم أو عثرت في مخابئهم أو على صعيد التنقل أو الاتصالات والتمويل.

وحتى الآن، تنظر الأجهزة الأمنية التي باتت مقتنعة بوجود علاقة وتنسيق بين المجموعتين بكثير من الجدية إلى تبني «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» لعملية «شارلي إيبدو»، لكنها بالمقابل، ما زالت تشكك بعلاقة «داعش» بعملية المتجر اليهودي.

وأمس، أغلقت الشرطة محطة القطارات التي تسمى «محطة الشرق» الواقعة شمال باريس بسبب إنذار بوجود قنبلة الأمر الذي أعاق حركة القطارات. وأعلن رئيس الحكومة مانويل فالس، أن حكومته «ستتخذ مزيدا من التدابير الاحترازية» في البلاد «لأن خطر التهديدات مرتفع للغاية». وتريد باريس بالتفاهم والتنسيق مع بلدان الجوار الفرنسي، وتحديدا بلجيكا وألمانيا، القيام بخطوات «استباقية» لزعزعة ما قد يكون قائما من خلايا إرهابية تكون شبيهة بما قامت به الشرطتان البلجيكية والألمانية.