هل أطلقت واشنطن العملاء «الكوبيين الخمسة» ليخلفوا آل كاسترو؟

ازدياد الظهور العلني لـ«مجموعة الأبطال» والاحتفاء بهم أثار تساؤلات واسعة في هافانا

كوبيون يقودون دراجاتهم أمام صورة كبيرة لـ«الكوبيين الخمسة» الذين أفرجت عنهم الولايات المتحدة في أحد شوارع هافانا الأسبوع الماضي (رويترز)
TT

منذ عودتهم لهافانا الشهر الماضي بعد قضائهم 16 عاما في أحد السجون الفيدرالية الأميركية، أصبح الأعضاء الثلاثة المتبقون من شبكة التجسس المعروفة باسم «الكوبيون الخمسة» من الضيوف المتكررين على شاشات التلفزيون الرسمي. وأينما ذهبوا، سواء كانوا في زيارة لجامعات أو يحضرون حفلات أقيمت على شرفهم، يجري الاحتفاء بهم باعتبارهم «أبطال الجمهورية».

والملاحظ أن الثلاثة يتحدثون بثقة وصراحة غير معهودة في المسؤولين الشيوعيين من جيلهم الذين نادرا ما ينحرفون عن النص المحدد لهم أو يبدون أي عاطفة أو انفعال. ورغم السنوات التي قضوها خلف القضبان، فإن الرجال الثلاثة لا يزالون يتمتعون بشباب نسبي، على الأقل مقارنة بالقيادة الكوبية.

ومع كل ظهور علني، يتساءل مزيد من الكوبيين والمراقبين للشأن الكوبي حول ماهية الدور الذي يمكن للخمسة، خاصة زعيمهم غيراردو هيرنانديز، القيام به على الساحة السياسية مستقبلا.

ورغم أن كثيرا منهم لم تطأ قدماه كوبا منذ 20 عاما، فإن الحملة الدولية المستمرة التي أدارتها كوبا للإفراج عنهم جعلتهم أكثر الوجوه المعروفة على الساحة السياسية بعد آل كاسترو. وقد نشأ جيل كامل من أطفال المدارس الكوبيين على حفظ أسماء وسيرة هؤلاء الخمسة.

كان هيرنانديز، 49 عاما، يقضي عقوبتي سجن مدى الحياة بجانب 15 عاما عندما أطلق سراحه في إطار اتفاق مقايضة سجناء مقابل عميل للاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) سجن لفترة طويلة في كوبا، وفي الإطار ذاته تم الإفراج عن ألان غروس، المقاول المتعاون مع الحكومة الأميركية.

كانت هافانا قد بعثت هيرنانديز بهدف اختراق المجموعات المناهضة لكاسترو في ميامي، وأدين بتهمة التآمر لارتكاب جريمة قتل، وذلك لتمريره معلومات ساعدت كوبا في إسقاط طائرتين مدنيتين عام 1996 تخصان مجموعة «أشقاء من أجل الإنقاذ» المنفية، مما أسفر عن مقتل 4 أفراد.

وفي حديث له للتلفزيون الكوبي بعد وصوله إلى كوبا بفترة قصيرة، قال هيرنانديز والدموع تحبس أنفاسه: «لقد حلمنا بهذه اللحظة لفترة طويلة للغاية. الأمر الوحيد الذي كان يرفع روحنا المعنوية كان التفكير في العودة للوطن، وأن يجتمع شملنا مع الشعب الكوبي مجددا. لقد كان الأمر يستحق ما عانيناه».

ولم يكشف العملاء المفرج عنهم عن تفاصيل بخصوص خططهم المستقبلية، إلا أنه عندما وافقت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما على عودتهم لكوبا، ربما منح هذا القرار كوبا أكثر من مجرد مجموعة من عملاء الاستخبارات. وقال أوريليو ألونسو، عضو منظمة «كوبا بوسيبل» التابعة للمجتمع المدني في هافانا والتي تدعو لإجراء إصلاحات تدريجية: «لا ندري بعد ما ينوون فعله، لكنهم عادوا متمتعين بمكانة مرموقة. حتى الآن، لقد أبدوا مستوى غير عادي من النضوج السياسي».

يذكر أن قضية خلافة القيادة لا تزال من الموضوعات الحساسة في كوبا. كان فيدل كاسترو تنحى بسبب ظروفه الصحية ولم يظهر علنا منذ عام. ومن المقرر أن يتنحى شقيقه راوول عند انتهاء فترة رئاسته الحالية عام 2018. ويأتي في المرتبة التالية في صف خلافة الحكم النائب الأول للرئيس ميغيل دياز كانيل، 54 عاما، وهو تكنوقراطي نجح في الارتقاء عبر صفوف الحزب الشيوعي، لكن لا يزال عليه صياغة هوية سياسية خاصة به.

وتركت فترة حكم فيدل كاسترو التي استمرت 47 عاما إرثا تمثل في أزمة سياسية نجح شقيقه خلال رئاسته في تفاديها لفترة مؤقتة. ومع تركز السلطة في يد شخص واحد لفترة طويلة، فإنه من غير الواضح كيف سيتمكن أي خليفة لآل كاسترو من إحكام سيطرته على سلطة لازمة للإبقاء على نظام يقوم على حزب واحد.

يذكر أن كوبا الدولة الوحيدة في الأميركيتين التي لا تسمح لمواطنيها بالتصويت لاختيار كبار قياداتهم. وبدلا من صندوق الانتخابات، استقت السلطة خلال حقبة كاسترو على امتداد فترة طويلة، قوتها من مدى القرب من الشقيقين، وأعمال البطولة والضحية في خدمة الثورة. والملاحظ أن بعض كبار قادة الحزب الشيوعي والحكومة الكوبية الآن في السبعينات من عمرهم وكانوا جنودا مراهقين في وقت مضى في جيش كاسترو الثوري.

حاول راوول كاسترو تغيير هذا الوضع؛ إذ بعد توليه السلطة عندما اعتلت صحة شقيقه الأكبر عام 2006، أذهل الكوبيين بتنفيذه حملة تطهير في صفوف المسؤولين المدنيين الأصغر سنا (بينهم وزير الاقتصاد، كارلوس ليغ، ووزير الخارجية فيليب بيريز روك) الذين كانوا مقربين من شقيقه وجرى النظر إليهم في وقت ما باعتبارهم خلفاء محتملين له على كرسي الرئاسة. وعلق فيدل كاسترو على ذلك بقوله إنه جرى تسجيل محادثات لهم سرا ناقشوا خلالها أطماعهم في «رحيق السلطة التي لم يضحوا من أجلها مطلقا».

وباعتباره شخصية انتقالية، حاول راوول كاسترو إضفاء طابع مؤسسي على السلطة السياسية داخل الحزب الشيوعي، بدلا من حصرها في يد قائد واحد، على غرار ما هو قائم في الصين وفيتنام. وعليه، أقر فترات زمنية محددة للمناصب، ودعم مزيدا من النساء وكوبيين من أصول أفريقية وشبابا، موضحا أن السلطة ستكون من نصيب من ينجحون في شق طريقهم عبر صفوف النظام والارتقاء على أساس إنجازاتهم، وليس الكاريزما الشخصية فحسب. بيد أن المشكلة تكمن في أن وسائل الإعلام المملوكة للدولة دأبت على امتداد نصف قرن في الترويج للشرعية السياسية لآل كاسترو عبر التمجيد اللامتناهي لانتصارهم عام 1959.

بطبيعة الحال، تقلص هذه الثقافة القائمة على البطولة الثورية حتما من مكانة الشخصيات الأصغر سنا داخل الحكومة التي لم تبدأ مشوارها السياسي من داخل ميدان القتال أو السجون الأميركية، وإنما من داخل الاجتماعات المعنية بالاقتصاد والزراعة. وقد تعاني هذه الشخصيات عجزا في مصداقيتها بمجرد رحيل آل كاسترو. ولا يدري أحد ما الذي يمكن أن يحدث إذا دخل مدني مثل دياز كانيل في تحد أمام أي من الرفاق المخلصين كبار السن الذين ما زالوا يهيمنون على قيادة الحزب ويديرون شركات مملوكة للدولة تدر أرباحا ضخمة في مجالات السياحة وتجارة التجزئة وقطاعات أخرى، وذلك بعد رحيل آل كاسترو.

حتى اليوم، واحد فقط من «الكوبيين الخمسة»، هو فيرناندو غونزاليز، الذي عاد لوطنه العام الماضي بعد قضاء فترة سجنه، جرى تعيينه في منصب مدني قيادي نائبا لرئيس «معهد الصداقة الكوبية»، الذي يتعاون مع المجموعات الموالية لكوبا بالخارج. وقال أرتورو لوبيز ليفي، المحلل السابق لدى الحكومة الكوبية والذي يعمل حاليا أستاذا زائرا بجامعة نيويورك: «أعتقد أنهم يدخلون الساحة السياسية الكوبية حاملين قدرا من المصداقية مكافئ لأي شخص آخر».

بيد أن المكانة الثورية للعملاء تبدو مذهلة؛ إذ عندما عملوا عملاء سريين في ميامي، لم يشكلوا وحدة منفصلة، وإنما كانوا جزءا من شبكة أكبر لجمع المعلومات الاستخباراتية أسقطها مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي). وكان هؤلاء الخمسة الوحيدين الذين رفضوا التحول لعملاء لصالح «إف بي آي» عند مواجهتهم بعقوبات سجن لفترات طويلة. وعن ذلك، قال لوبيز ليفي: «من الصعب للغاية التشكيك في شخص قدم مثل هذه التضحيات من أجل الثورة».

من ناحية أخرى، فإن خطوة أوباما نحو تطبيع العلاقات مع كوبا تكفل أن يجري تحديد ملامح حقبة ما بعد كاسترو تبعا لعلاقة كوبا بالولايات المتحدة والضغوط المتزايدة على عاتق الجزيرة لتحقيق انفتاح في نظامها السياسي واقتصادها المنهار الخاضع لإدارة الدولة. والواضح أن هذا السيناريو لا يحمل مؤشرات جيدة لأصحاب الشخصيات الواهنة. وبالتأكيد راقب المسؤولون الكوبيون فنزويلا، التي يناضل فيها نيكولاس مادورو، الذي وقع الاختيار عليه لخلافة هوغو شافيز، لتنفيذ إصلاحات اقتصادية معقولة، حيث يعوقه الخوف من التعرض لاتهامات بخيانة أمنيات القائد. يذكر أن نسبة تأييده تراجعت إلى 22 في المائة، وهو أدنى مستوى لها على الإطلاق.

بيد أن وضع «الكوبيين الخمسة» في مناصب قيادية قد يزيد غضب الجماعات المناهضة لكاسترو داخل الولايات المتحدة. وقال فرانك كالزون، مدير «مركز كوبا الحرة» الذي يتخذ من واشنطن مقرا، وهو يعارض التقارب الذي يقوده أوباما نحو كوبا: «إذا رغبت الحكومة الكوبية حقا في بناء علاقات ودية مع واشنطن، فلا أعتقد أنه سيكون من الحكمة أن تكون لهم أي صلة بهؤلاء الأشخاص». إلا أنه من نواح أخرى، قد يكون هؤلاء الأشخاص أكثر استعدادا للتعاون مع الولايات المتحدة مقارنة بأي مسؤولين آخرين في كوبا من جيلهم، ذلك لأنهم يتحدثون الإنجليزية وقضوا معظم فترة حياتهم خلال فترة البلوغ في الولايات المتحدة. ورغم فترة سجنهم الطويلة، فإنهم لا يبدون أي سخط أو كراهية، بل عبروا مرارا عن امتنانهم لمؤيديهم من الأميركيين والمحامين الذين دافعوا عنهم.

وأشار كالزون إلى أنه على الرغم من اعتراضات الحكومة الكوبية المتكررة على ظروف سجنهم، فقد عاد العملاء إلى وطنهم وهم يبدون في حالة صحية جيدة، على خلاف الحال مع الأسير الأميركي ألان غروس، الذي عاد لوطنه هزيلا وفقد الكثير من أسنانه بعد قضائه 5 سنوات داخل مستشفى كوبي عسكري. وعندما وقفت زوجة هيرنانديز لاستقباله، صدم الكوبيون برؤيتها وهي تبدو عليها علامات الحمل. يذكر أن الزيارات الزوجية غير مسموح بها داخل السجون الفيدرالية الأميركية. إلا أنه في إطار المفاوضات السرية التي سبقت صفقة تبادل السجناء، سمح المسؤولون الأميركيون للزوجين بأن تحمل الزوجة عبر التلقيح الصناعي أو «ريموت كونترول»، مثلما قال هيرنانديز مازحا عبر شاشات التلفزيون الكوبي. وبالفعل، ولدت ابنتهما جيما، في 6 يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد 19 يوما فقط من عودته.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»