تشاؤم وأمل بفوز «الأقل سوءا» من المرشحين في الانتخابات النيابية في الشمال اللبناني

TT

«المال المهدور على صور المرشحين وحده كان يكفي لإصلاح الكهرباء»، هذا هو لسان حال الناخبين في شمال لبنان الذين يتوجهون الى صناديق الاقتراع يوم غدٍ لاختيار ممثليهم في المجلس النيابي.

ويسيطر على الناخبين هاجس الاوضاع المعيشية المتردية التي ازدادت صعوبة اثر قصف اسرائيل محطة «دير نبوح» منذ اشهر، مما اغرق المنطقة في ظلام دامس وزاد من معاناة اهالي الشمال.

ثمة احساس عميق عند الناخبين بأن نتائج الاقتراع، أياً تكن، لن تصب في صالحهم خاصة بعد ان كشفت الاقنعة وبانت الخلافات العميقة بين الزعامات وظهرت هشاشة التحالفات وغابت البرامج السياسية والاقتصادية المتكاملة لهذه اللائحة او تلك.

ويعلم الشماليون الذين عانوا اهمالاً ممضاً طوال عقود، ان شرذمة ممثليهم ادخلتهم متاهة اللاقرار، فيما تبدو لهم انتخابات اليوم اسوأ من اي وقت مضى بسبب التحالفات الزائفة والمصطنعة التي لا هدف لها سوى اجتياز امتحان صناديق الاقتراع لينفض بعدها الشمل وتعود الكتل اصواتاً منفردة لا وزن لها ولا صدى.

«نائب واحد لا يستطيع فعل شيء» يردد الاهالي، لذلك فإن غياب التيارات السياسة التي يمكنها ان تنشط جماعياً وبوزن كاف داخل المجلس النيابي ينذر سلفاً بعواقب وخيمة.

وتشهد دائرة الشمال الثانية (طرابلس، المنية، الكورة، زغرتا، البترون) احدى اقسى المعارك الانتخابية وبوجود لائحتين اساسيتين يتزعم احداهما رئيس الوزراء الاسبق عمر كرامي ومعه النائبة نائلة معوض تحت عنوان «الكرامة الوطنية»، ويتزعم اللائحة الثانية الوزير سليمان فرنجية ومعه الوزير نجيب ميقاتي تحت عنوان «لائحة التضامن والانماء»، وقد باتت تعرف بـ «لائحة الاقوياء» لما تضمه من اسماء بارزة ووزراء ونواب بينما عرف عن لائحة عمر كرامي انها «محاصرة ومحاربة ولم تتشكل الا بعد طول عناء» وهو مما اكسبها تعاطفاً لدى شريحة واسعة من الناخبين ودعماً ممن يحذرون مساوىء الاستقواء، على حد قول فريق من المراقبين المحايدين.

وجولة سريعة في طرابلس، عاصمة الشمال، يدرك من خلالها المشاهد ان المرشحين في واد والناخبين في واد آخر. لقد احتدم التراشق الكلامي على مدى الاسابيع الثلاثة الأخيرة بين المرشحين البارزين وجيشوا له كل الاسلحة من مذهبية وعائلية ومناطقية وشعاراتية واقطاعية واقليمية. ولم يوفر المرشحون وسيلة تليق او لا تليق بانتخابات «ديمقراطية» الا وركبوا موجتها. ووظف المقتدرون من المرشحين ميزانيات مرعبة لحملاتهم الانتخابية كما اثار البعض وبشكل متكرر قضية «الاشباح» والاجهزة الامنية التي تتدخل في الكواليس لتشكل الخرائط وتعلب النتائج وتحرك المرشحين وفق الادوار المطلوبة منهم.

وامام هذا الهرج والمرج واشتعال نار التهم والتهم المتبادلة ينتاب الطرابلسيون والشماليون عموماً يأس شديد قد يترجم عزوفاً عن الاقتراع لفئة ليست بالقليلة، على ما يبدو، «لأن احداً لا يستأهل التصويت له» بحسب قول بعضهم و«المرشحون غاياتهم شخصية، اما مصلحة البلد فهي آخر ما يعنيهم. وما الذي بوسعهم ان ينجزوه وهم لا يجتمعون في مجلس واحد؟». وباستثناء نخبة ميسورة او مثقفة وقلة تبقت من الطبقة المتوسطة فإن الغالبية المطحونة في رحى الفقر والبطالة لا تريد الغوص بعيداً في معاني المهزلة الانتخابية التي بعدت عن واقع معيشي صعب يتطلب إنقاذاً سريعاً. وفي سوق «باب التبانة»، احد اكثر المناطق حرماناً في مدينة طرابلس ترتفع وتيرة الكلام عند الباعة حين تسألهم عن الانتخابات وتسمع من يطالب فوراً بإيقاف معاشات النواب والوزراء السابقين وفتح ملفات المختلسين، «نحن بحاجة الى كل قرش يذهب الى غير مستحقه». ويشرح احدهم: «ان المستشفى الحكومي الوحيد الذي يستقبلنا بالمجان يشبه زرائب الحيوانات فأين هم نوابنا من هذه المأساة؟». ويقول آخر «انهم لاهون عنا بخلافاتهم ومصالحهم الشخصية. ايام الانتخابات يزوروننا ويكثرون من المساعدات والخدمات وباقي الايام بالكاد نلمحهم على التلفزيونات، نحن نتمنى ان لا تتوقف الانتخابات كي نستفيد». ويجيبه آخر غاضباً: «ارأيت؟ يريدوننا ان نتعود الشحاذة. نعرف انهم يرشوننا ومع ذلك نقبل لأننا بحاجة الى رشواتهم».

واذا كانت من سمة لانتخابات 2000 فهي مشاركة المستثمرين الكبار والتجار واصحاب رؤوس الاموال في المعركة الانتخابية لأنهم يرون في ثرواتهم افضل وسيلة، في ظل الظروف الحياتية البائسة، لتسلق سلم السلطة. ولا يمكنك ان تتجاهل في طرابلس ظاهرة احد اشهر المرشحين المتمولين الذي يشغل الساحة ويقابل بمواقف شعبية متناقضة لا تخضع لمنطق فمنهم من يثنون على مساعداته السخية في الطبابة والتعليم وغيرها ومن ناحية ثانية يبدون حذراً من اسلوبه في صرف اموال طائلة لاغراض انتخابية صرفة بدل ان يسعى لاقامة مشاريع استثمارية توفر فرصاً لعمل شريف، ودائم. كما يتساءلون عن مصدر هذه الاموال وكيفية جمعها.

والكلام على المال الانتخابي المهدور يكثر على شاطىء الميناء حيث يجتمع الصيادون في الصباح. الصيادون الذين تنامت اعدادهم كالفطر بسبب البطالة «ما عاد امامنا غير البحر، نحن نطالب بعمل ولا شيء آخر ونشعر اننا ذاهبون الى مجاعة في حال بقيت الاوضاع على ما هي عليه». ويروي الصيادون حكاياتهم مع المرشحين فهذا تقاضى مبلغ 400 دولار لتعليق صورة احد المرشحين على شرفة منزله وذاك تقاضي من مرشح مبلغ 100 دولار للادلاء بصوته، وغيرهما يتحدثون عن مبالغ مغرية تقاضوها مقابل تعليق صور مرشحين فوق صور خصومهم. ورغم اعتراف هؤلاء جميعاً بسوء عاقبة الحال الا انهم لا يستطيعون رفض مبالغ هم بحاجة ماسة اليها.

ويعلق احد الشبان الذين دفعتهم البطالة الى الصيد رغم انه متخصص في مجال الكهرباء بالقول: «كل الطرق باتت مسدودة بما فيها البحر بعد ان لوث بالمجارير التي تصب في مياهه. نحن نسبح ونصطاد في قذارات نتنة».

بهذه الروح التشاؤمية يذهب الشماليون الى الصناديق ليدلوا بأصواتهم من اجل انتخاب «الأقل سوءاً» دون قناعة عميقة منهم بجدوى ممثليهم المستقبليين.

ويفهم اليأس الطرابلسي والشمالي من الانتخابات في ظل معدلات البطالة المرتفعة جداً والمعاناة المأساوية من ارتفاع كلفة الطبابة والاستشفاء والتعليم وغياب الضمانات الاجتماعية، هذا اضافة الى انقطاع التيار الكهرباء الذي وصل الى 22 ساعة في اليوم ليبلغ ذروته قبيل الانتخابات، اضافة الى تلوث المياه وانقطاعها بالكامل عن بعض المناطق الاكثر فقراً وحرماناً في مدينة طرابلس. واذا اضفنا الى كل ذلك ما يتكشف يومياً من نيات وخفايا ومؤامرات تحاك في الكواليس ادركنا عمق الخيبة الشمالية. فثمة مرشح متمول عاد بمناسبة الانتخابات الى ارض الوطن يقر مناصروه انه يسعى بكل ما اوتي من قوة الى الفوز لأنه فشل في الحصول على التزامات من خارج المجلس النيابي. ورئيس لائحة يصرح بلا حرج ان معرفته حديثة باثنين من المرشحين على لائحته وبالتالي ليست لديه معلومات وافية عنهما. واعضاء لائحة اخرى يتحدثون في العلن عن التضامن والتماسك بينما يتخوفون في الخفاء من «الطعن بالظهور» عند اللحظة الحاسمة. اما الناخبون المغلوبون على امرهم فيزدادون حيرة وقلقاً ولا يخفون رغبتهم في تشكيل لوائحهم الخاصة التي ستجمع الاعداء والاصدقاء في وقت واحد.