سلام السودان يمكن أن يصنع في دايتون أيضا

TT

يبدو ان القيام بدور صانع السلام في السودان اصبح احدث الالعاب في الدبلوماسية الدولية. وجاءت اول خطة من هذا النوع من مجموعة دول ايقاد عام 1998 عندما ادت الازمة العميقة في الخرطوم الى بعث الامل على استعداد التحالف الاصولي ـ العسكري الحاكم للدخول في حوار مع المعارضة. وبعدها جاءت مبادرة السلام المصرية التي اعتبرت دليلا واعدا بسبب علاقات مصر الوثيقة مع بعض قطاعات المعارضة السودانية. وعقب ذلك دخلت ليبيا الساحة باقتراح خطة سلام خاصة بها. وبين هذه وتلك، ولفترة قصيرة في عام 1999، استغلت الجزائر رئاستها منظمة الوحدة الافريقية فحاولت من جانبها الانخراط في مساعي السلام في السودان. وحتى قطر انضمت للعبة عندما استخدام اميرها الدبلوماسية للمساهمة في اخراج السودان من ازمته.

وطوال ذلك الوقت كانت مجموعة من شركات النفط، تقودها الشركات الكندية، تشارك في جهد دبلوماسي تقليدي وهادئ لانهاء الحرب الاهلية في اكبر دول القارة الافريقية.

وكانت اكثر هذه الجهود قربا من النجاح عندما اتفقت كل من مصر وليبيا على توحيد خططهما للسلام والقاء ثقلهما وراء عقد مؤتمر وطني. واستغرق الاتفاق على موقع عقد المؤتمر وقتا طويلا حيث تم اختيار القاهرة ثم طرابلس ثم جنيف والخرطوم مكانا لعقد المؤتمر.

وفي اطار هذه الخلفيات تدرس الولايات المتحدة مبادرتها السلمية الخاصة بالسودان. وذكرت مصادر في العاصمة الاميركية ان النموذج المقترح لهذه المبادرة هو ذلك الذي استخدم في انهاء الحرب في البوسنة في التسعينات. ويعتقد ان ريتشارد هولبروك المندوب الاميركي لدى الامم المتحدة، يلعب دورا رئيسيا في بلورة مبادرة اميركية جديدة. والمعروف ان هولبروك هو الذي نسق المفاوضات التي ادت الى مؤتمر دايتون وتحقيق السلام في البوسنة والهرسك.

هل امام المبادرة الاميركية فرصة اكبر للنجاح حيث فشل صانعو السلام الاخرون؟ الاجابة على هذا السؤال غير مؤكدة. فالنظرة الاولى تشير الى وجود فرصة افضل امام الولايات المتحدة للنجاح لعدة اسباب. فهي يمكنها توحيد جماعة ايقاد في الوقت الذي تضمن فيه الدعم من الدول العربية بسبب التعاون المصري. كما ان واشنطن تتمتع بعلاقات تقليدية وثيقة بعدد من الاحزاب السياسية السودانية، ولا سيما الجبهة الشعبية لتحرير السودان التي تعتبر القوة الرئيسية في الجنوب الذي انكهته الحروب. كما انه من الواضح ان الرئيس السوداني عمر حسن البشير يسعى للحصول على الدعم الاميركي الذي يعتبره ضروريا لنجاح استراتيجيته بالبقاء في السلطة بشكل او اخر.

الا ان السودان ليس البوسنة.

ففي البوسنة كان للحرب طرفان. الطرف الاول الصرب والطرف الاخر تحالف المسلمين والكروات. اما في السودان فإن على اي صانع للسلام مواجهة مجموعة كبيرة من الاحزاب والجماعات والاجنحة والحركات الدينية والقبائل والبطون لكل منها اهدافها الخاصة.

ان التحالف العسكري الاصولي الحاكم في الخرطوم منذ انقلاب 1989 تفكك، وتسبب في واحد من اكثر الصراعات على السلطة مرارة في تاريخ السودان.

والتجمع الوطني الديمقراطي المعارض تفكك هو الاخر. وهناك انشقاقات داخل الجبهة الشعبية لتحرير السودان حيث يعبر عدد كبير من الاعضاء عن احباطهم تجاه القيادة ذات الطبيعة السلطوية لجون قرنق.

ويوجد ايضا اختلاف هام بين البوسنة عام 1997 والسودان عام 2000. ففي عام 1997 ادى الموقف البوسني الى شل المفاوضات حيث لم يكن امام اي من المعسكرين اية فرصة واقعية للتوصل الى النصر الكامل الذي حلموا به. وفقد الوضع القائم في البوسنة في ذلك الوقت كل ديناميكيته وبالتالي لم يستطع التعهد بأية تغيرات. اما الموقف الحالي في السودان فمختلف. اذ يعتبر السودان في حالة فوران.

فقد فتح الطلاق بين البشير والترابي فرصا جديدة داخل المؤسسة الحاكمة. فجناح البشير يمكنه الان متابعة سياسة الحصول على شرعية جديدة ناجمة عن مزيج من التوازن والقوة. فالبشير الرجل الذي ابتلع الحبة المرة لـ «تقرير المصير» للجنوب وقبل امكانية استقلال جنوب السودان، يقدم نفسه هذه الايام في دور الحامي لوحدة الاراضي. وتشن قواته الجوية غارات شبه يومية على اهداف جنوبية. وهذه الغارات بلا معني من الناحية العسكرية، لانها تشن من ارتفاعات عالية، وكثيرا ما تخطئ اهدافها. وعلى اية حال، فانها لا توجه ضد مواقع الجبهة الشعبية لتحرير السودان. بل هي غارات ذات طبيعة سياسية تهدف الى دعم موقف البشير في الشمال وتحسين فرصه في اي انتخابات رئاسية قادمة.

ان الزيادة الدرامية في دخل السودان من النفط الذي يمثل الان ربع الميزانية القومية، قدم للبشير القدرة المالية المطلوبة للحفاظ علي المؤسسة العسكرية راضية بينما يستعرض عضلات الحكومة المركزية في الشمال. ان انهيار التحدي العسكري للمعارضة في الشمال والشرق مكن البشير من زيادة التركيز على الجنوب. ويؤمن البشير انه يملك كل اوراق اللعب الرابحة فيما عدا ورقة واحدة: نية واشنطن الحسنة. وهذا هو السبب وراء محاولاته الحالية لترتيب حوار مع الولايات المتحدة بحماس لم يسبق له مثيل. وهو يشعر بامكانية بقائه في السلطة بدون تقديم اي تنازلات سواء للمعارضة بقيادة صادق المهدي او لحليفه السابق الترابي. ويؤمن البشير ان الترابي، اذا ترك له الحبل على الغارب سيشنق نفسه. ويعتقد البشير ان اي «مؤتمر وطني» سواء كان برعاية الولايات المتحدة او اي جهة اخرى، سيجعله مجرد متسوق في سوق مزدحم.

اما الترابي، فيجد ان الموقف الجديد يعمل لصالحه. فهو لم يعد مضطرا لممارسة «التقية» للحفاظ على علاقاته الغامضة مع المؤسسة العسكرية. لقد كان الترابي اكثر فاعلية كشخص غير ملتزم يدافع عن كل شيء واي شيء. وهو يريد الان تقديم نفسه في دور بطل التعددية واقتصاد السوق وحقوق الانسان والديمقراطية في السودان.

كما لا توجد امام الترابي اية مصلحة في عقد مؤتمر وطني، ففي الواقع لمح بالفعل الى ان حزبه الجديد سيقاطع مثل هذا الحدث. والسبب هو انه لايزال يأمل في ان مجموعة البشير ستتفكك، وهو الامر الذي سيسمح للترابي بالظهور كصوت رئيسي في المؤسسة الحاكمة.

وفي المعارضة، فإن الصادق المهدي الشخصية البارزة الوحيدة المؤهلة لـ «الرئاسة» غير مهتم بـ «مؤتمر وطني» سيضعه في مواجهة مع عشرات من السياسيين الاخرين لكل منهم اجندة متناقضة مع الاخر. ويعتبر انصار المهدي زعيمهم «رجل الخيار الاخير» الذي يمكن ان يقود السودان في فترة انتقالية صعبة. والشخصية المعارضة الشمالية الاخرى هي عثمان الميرغني الذي يمكن القول ان لديه اسبابه الخاصة لعدم الترحيب بعقد مؤتمر الوطني في الوقت الراهن.

فمثل هذا المؤتمر يمكن ان يؤدي الى اتفاق على مستوى يستبعد الميرغني او تكليفه بمنصب ثانوي.

واخيراً يحاول قرنق هو الاخر استغلال امكانيات الموقف. فتحليله الراهن يعتمد، فيما يبدو، على التصور القائل بأن الشمال لم يعد قادرا على تشكيل قوة متماسكة في الخرطوم قادرة على فرض سيطرة فعالة علي الجنوب. كما انه يؤمن ايضا ان الرأي العام العالمي بان يقف الى جانب الجبهة الشعبية لتحرير السودان وان الجنوب يمكن ان ينظر الى سيناريو مقارب لسيناريو اريتريا فيؤدي الى استقلاله. ويدعو قرنق، كحركة تكتيكية، الى دستور علماني كامل تحدد فيه المواطنة عن طريق القانون وليس عن طريق الدين او الانتماء العرقي. وهذا الموقف يحظى بدعم مصر وليبيا من ناحية والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي من ناحية اخرى. وجوهر كل ذلك هو ان اللاعبين الرئيسيين يرون الموقف الراهن في السودان مفعما بالامال وبالتالي لا يجب تعطيل هذه الامال عن طريق خطة سلام محددة. فمؤتمر سوداني على غرار مؤتمر دايتون في السودان يمكن ان ينتظر الادارة الاميركية القادمة. وبحلول ذلك الوقت يجب ان يصل الانصهار الحالي الى مداه، ويقنع اللاعبون الرئيسيون بعدم امكانية ان يحقق اي منهم النصر الشامل.