بعد 18 سنة من وقوعها.. مذبحة صبرا وشاتيلا لا تغيب عن ذاكرة اللبنانيين والفلسطينيين

TT

تبدو الحياة على حالها في مخيمي صبرا وشاتيلا عند البوابة الجنوبية لبيروت، عشية الذكرى الثامنة عشرة للمذبحة التي ذهب ضحيتها اكثر من 2000 لبناني وفلسطيني خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف عام 1982.

ولكن الكثافة البشرية في الازقة الضيقة وصراخ الباعة وانعدام وسائل النظافة والمنازل المتداعية كلها تروي حكاية بؤس لا يمكن تجاهلها. يكفي ان تفتح الصفحة ليبدأ الكلام عن معاناة يصعب تصورها. يكفي ان نسأل ليعود شهود العيان على فظاعة المذبحة بكل تفاصيلها وكأن الماضي ما زال حاضراً وبقوة في ذاكرة الجميع، حتى الذين ولدوا بعد عام 1982.

وتقول شهيرة ابو ردينة حين سألتها عن ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا: «نحن لا ننسى كي نتذكر، فالمذبحة عميقة في تفاصيل حياتنا اليومية. ففي ليل 15 ـ 16 سبتمبر (ايلول) كنا في المنزل، داخل المخيم، ننظفه بعد غياب 3 اشهر، هربنا خلالها من الاجتياح الاسرائيلي، سمعنا حركة مشبوهة. خرجت اختي فرشقوها بالنار. صرخت يابا. لحق بها ابي، فكوَّموه فوقها. لم يجرؤ أي منا على الخروج. كنا نسمع تحركاتهم واحاديثهم. وكانوا ينصتون الينا. يصمتون حين يتعالى بكاء طفلي الرضيع. في السادسة صباحاً هبطوا علينا من السطوح. اضافة الى زوجي كان اخوه واخي وزوجتاهما واقارب غيرهم في الغرفة. وكنت مع امي واولادي: منى (3 سنوات) ومروان (سنة ونصف) وماهر الرضيع (15 يوماً). اطلقوا النار على الرجال، ثم قطعوهم بالبلطات تحت انظارنا». والمذبحة التي حصدت عائلة شهيرة حصلت بين 15 و17 سبتمبر عام 1982 اثر اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب آنذاك بشير الجميل. ولم يفرق مرتكبوها بين الشيوخ والشباب والاطفال. ولم تسلم منها الجياد والهررة والكلاب. وعلى رغم نفي ميليشيا «القوات اللبنانية» آنذاك اي علاقة لها بهذه المذبحة، يؤكد من عايش هذه المأساة في المخيم وبعد مرور 18 عاماً عليها ان مسلحين لبنانيين من «القوات» و«جيش سعد حداد» (ميليشيا «جيش لبنان الحر» المتعاملة مع اسرائيل) ارتكبوها بإشراف الضباط الاسرائيليين الذين كانوا يحاصرون صبرا وشاتيلا ويراقبون ما يجري ويصدرون الاوامر الى المسلحين. كما يذكر البعض ان وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك ارييل شارون كان يقف فوق دبابة قرب السفارة الكويتية.

ويحكي بعض شهود العيان ان المسلحين كانوا يختبئون خلف المسجد عند اطراف المخيم كما دلت زجاجات الخمر وبعض المخدرات والفاكهة التي خلفوها في المكان اثر ارتكابهم فظاعاتهم.

ويقول «ابو ثائر» وهو بائع خضار في مخيم صبرا : «ان المخطط لارتكاب المذبحة كان معداً قبل موت بشير الجميل الذي كان، ربما عدل عنه بعد انتخابه رئيساً للجمهورية. لكن تنفيذه بسرعة ودقة كما حصل وبتنظيم من الاسرائيليين واشرافهم، لا يبدو انه كان رد فعل عفوياً او غرائزياً على موت الجميّل. والجميع يعلم اننا لسنا مسؤولين عن موته. كذلك لسنا مسؤولين عن الحرب في لبنان». وأضاف: «انا ولدت في المخيم عام 1958 وكان المسلمون يومها يقاتلون المسيحيين. وبعد الاجتياح الاسرائيلي ورحيل منظمة التحرير الفلسطينية والكفاح المسلح، تابع اللبنانيون التقاتل في ما بينهم فما ذنبنا نحن لنذبح كالحيوانات؟».

وتتدخل شهيرة ابو ردينة متابعة حكايتها مستخدمة ضمير الغائب لتشير الى مرتكبي المذبحة فتقول: «بعد قتلهم رجالنا اخرجونا مع الصغار وقادونا الى المدينة الرياضية. شاهدناهم يهيلون التراب بجرافاتهم على الاسرى الاحياء. انفجر لغم بطابور من الاسرى كانوا امامنا. فدب الذعر. ومات من مات وهرب من هرب. كنا من الهاربين. وبعد ثلاثة ايام شاهدنا فظاعة ما جرى من خلال الصحف. فعدنا. وكانت الجثث مكومة اكواماً وتغطي الطريق. قلبناها حتى عثرنا على جثث زوجي واخوته واخوتي وابناء عمي ودفناهم».

ولا تذكر منى ابنة شهيرة من المذبحة الا تلك الدبابة الاسرائيلية التي تمركزت عند مدخل الزقاق، لكنها، كما قالت «مستعدة لقتل من تتأكد انه كان من المشاركين في هذه الجريمة الانسانية».

ويقول تيسير عزقول: «لقد جمعوا الشباب واوقفوهم صفاً واحداً الى الحائط. ثم اطلقوا النار عليهم. فسقطوا جميعاً. احدهم، ويدعى مصطفى هبرات، لم يمت. بقي فاقداً وعيه اكثر من يومين، كاد يدفن حياً لو لم ينتبه اليه فريق الدفاع المدني. باشروا بعلاجه، لكن حالته كانت خطرة، فأرسل الى المانيا، حيث تابع علاجه وبقي هناك الى اليوم». وتقول زوجة تيسير ان المسلحين نادوا الناس بمكبرات الصوت، كل باسمه وطلبوا اليهم النزول الى الشارع ليتمكنوا من «حمايتهم». بعضهم صدق ونزل. وبعضهم هرب. من نزل اقتيد الى «المسلخ» (وهي غرفة قرب منزل ابو ردينة) حيث قطعوهم ونكلوا بهم.

وتكثر الحكايات لأن كل من في المخيم كان شاهد عيان على المذبحة ولا يحتاج الى مجهود لحضه على الكلام. وكأن وجع الذكرى ما زال ينبض بعد 18 عاماً، او ان عدوى الاخبار تطاول الجميع فتسارع ليلى حرب لتؤكد انها شاهدت جثث اطفال حول اطباق الطعام التي كانت ما تزال على حالها، «تخيلت انهم سيمدون اياديهم ويتناولون ما فيها». لتنتفض احدى السامعات رعباً. فيرفع «ابو ثائر» جرعة الرعب في الحكاية، ليقول انه شاهد «امرأة حاملاً وقد بُقر بطنها ووضع الجنين على صدرها». فتؤكد شهيرة الحكاية مضيفة «ان امرأة اخرى قتلت وبقي وليدها يرضع منها ساعات عدة».

ويؤكد ماهر ابن شهيرة الذي ولد قبل المذبحة بأيام انه سينتقم ويناضل وانه لن يقبل بالتوطين لأن حنينه الى فلسطين يزداد يوماً بعد يوم «فهي عروس مهرها الدم». ويقول: «كل ما عاناه الفلسطينيون سببه حرمانهم من وطنهم وبالتالي من كرامتهم».

وتستعيد «ام موسى» مأساتها لتقول: «كنت اعمل في تنظيف البيوت لأربي اولادي. مسحت الارض ليكبروا. كل شبر بنذر. احدهم صار محامياً والثاني طبيباً. ذبحوا المحامي. اما الطبيب الذي كان يعمل في مستشفى غزة في مخيم صبرا فقد اختفى مع زملائه. وهو في عداد المفقودين الذين اعلنت الدولة اللبنانية قبل فترة انهم اموات. لكني لم ادفنه».

في «بيت اطفال الصمود» جلس اطفال مخيمي صبرا وشاتيلا يشاهدون فيلماً عن المذبحة للمخرجين السينمائيين اللبنانيين جان شمعون ومي المصري. المسؤولة جميلة قالت لـ «الشرق الأوسط»: «نريد ان يفهم اطفالنا ما جرى، او تأخذهم الحياة الى اماكن مريحة اكثر من المخيم فينسوا القضية».

سهير ابنة الثالثة عشرة قالت: «انا اخاف الكلام عن المذبحة، لكني لا اخاف الاسرائيليين وسأحاربهم» اما منال فقالت: «انا ايضاً اخاف، لكني لا اريد ان احارب. اريد ان اصبح معلمة. وربما أُعمِّر بيت جدي (واشارت الى ركام منزل صغير) فقد قصفه الاسرائيليون، كما اخبرني ابي». فردت سهير : «لماذا نعمر بيوتاً خارج وطننا فلسطين؟». وعادت جميلة الى الكلام فقالت: «في روضة الصمود كان هناك فتى اسمه صلاح، بقي طوال عامين يرسم صورة امرأة ميتة تسيل منها الدماء تبين ان هذه المرأة كانت امه. اما محمد ابو ردينة فقد شاب شعره وهو طفل في الخامسة من العمر لأنه شاهد والده يقتل امامه ويقطع ارباً». وقالت سميرة سعد: «ان امرأة اسمها فضة سعد كانت تعجن وتخبز فجر 15 سبتمبر. راقبها القتلة وحين انتهت امسكوها من شعرها وجروها الى المسلخ ثم ذبحوها». ولا تنتهي حكايات المذبحة في مخيمي صبرا وشاتيلا. وهي لن تنتهي باحياء الذكرى الثامنة عشرة بالتأكيد، لأن شهود العيان ما زالوا في موقع الحدث وما زالت ظروفهم المأساوية تجدد جروحهم في انتظار حل عادل لقضيتهم.