آية الله منتظري: كنت والخميني من مؤيدي زعيم ثوري شاب سعى إلى الوحدة الإسلامية

النائب السابق لزعيم الثورة الإيرانية يستعرض في مذكراته سنوات دراسته الأولى وموقف قم من إنشاء إسرائيل

TT

لم يكن الشيخ حسين علي منتظري في عداد المراجع الكبار في ايران عند اندلاع الثورة في منتصف عام 1978، كما ان شهرته كعالم دين معارض كانت محدودة جدا بسبب إبعاده عن الحوزة الدينية في مدينة قم خلال السنوات التي قضاها في السجن او المنفى.

ورغم ذلك فان زعيم الثورة آية الله الخميني استقبل منتظري الذي اطلق سراحه في اكتوبر (تشرين الاول) 1978، وتوجه بعد فترة قصيرة الى باريس بحفاوة كبيرة واسند اليه رئاسة مجلس قيادة الثورة. ومنذ ذلك اليوم بدأ الناس يدركون ان الشخصية الثانية بعد الخميني ضمن قادة الثورة ليست بهشتي او بازركان او قطب زاده او بني صدر، بل هو الشيخ منتظري الفقيه القروي الذي يتحدث بلهجة اصفهانية خالصة.

وبعد شهور قليلة من وصول علماء الدين الى السلطة في طهران مطلع عام 1979 اضفى الايرانيون العاديون القابا مختلفة على مساعدي الخميني، ولا سيما اصحاب العمائم من امثال بهشتي الذي نال لقب «راسبوتين الثورة» وكان المبادر الى اطلاق هذا اللقب ليس الصحف المعارضة والسكان فحسب، بل ايضا محمد منتظري، نجل آية الله حسين منتظري، الذي قتل في ما بعد بجوار بهشتي في حادث تفجير مقر الحزب الجمهوري الاسلامي في يوليو (تموز) 1981. ومحمد نفسه كان يلقب بـ«محمد رينغو» اشارة الى شخصية «رينغو» في افلام الغرب الاميركي، نظرا الى ولعه بالسلاح وممارساته الثورية غير الشرعية مثل خطف طائرة الى ليبيا للمشاركة في احتفالات الفاتح من سبتمبر بعد ان حظرت الحكومة الايرانية الثورية برئاسة مهدي بازركان مشاركة المسؤولين في تلك الاحتفالات احتجاجا على اختفاء عالم الدين الشيعي اللبناني موسى الصدر في ليبيا.

وبالنسبة لآية الله حسين منتظري، فان بساطته ولغته القريبة من مدارك القرويين الاميين كانتا من اسباب انتشار المئات من القصص والنكات والحكايات الطريفة عنه.

وقد تواصل تردد هذه الحكايات عنه حتى بعد تعيينه نائبا للخميني الذي سماه الخميني «الفقيه الاعلى»، وهو لقب ظل يخاطب به رسميا عشر سنوات في الصحف ووسائل الاعلام وعلى لسان المسؤولين، كبارهم وصغارهم.

ولكن بين ليلة وضحاها، اي منذ عزله في مارس (آذار) 1989 تحولت صورته لدى الناس من الشيخ الساذج والقروي الامي الى رمز للمعارضة والصدق والاخلاص والتقوى وسرعان ما اختفت النكات الصادرة حوله لتحل مكانها روايات عن سلوكه وافكاره ومعاناته. والمثير ايضا ان اجهزة الدعاية الحكومية والشخصيات القابضة على الحكم التي كانت قبل ذلك تخاطبه بـ«سماحة المرجع الاعلى» و«الفقيه الاعظم»، بدأت تصفه بما كانت تقول عنه المعارضة والناس العاديون من انه شيخ ساذج وقروي أمي.

وفي السنوات العشر الماضية، ظل منتظري إما تحت الاقامة الجبرية او تحت الضغط كي يتماشى مع الحكم، غير انه رفض مبايعة خليفة الخميني الحالي آية الله علي خامنئي وواصل انتقاده والتقليل من كفاءته واهليته للحكم. ورغم ان عددا من ابرز تلامذته الاوفياء تسلموا المناصب التنفيذية الرفيعة بعد انتخاب محمد خاتمي رئيسا للجمهورية (وخاتمي نفسه يعد من تلامذته والمعجبين بشخصيته)، غير انهم لم يتمكنوا من رفع الاقامة الجبرية عنه، بل ان عددا منهم، مثل عبد الله نوري وزير الداخلية السابق والدكتور محسن كديور الباحث وعالم الدين المثقف وحجة الاسلام حسن يوسفي اشكوري، تعرضوا للمحاكمة والسجن بسبب دفاعهم عنه وولائهم له.

ان مذكرات رجل عاش سنوات حكم الشاه الراحل، وامضى سنوات عديدة من عمره سجينا ومنفيا، ثم اصبح الرجل الثاني في ايران لمدة عشر سنوات، وعاش بعد ذلك اسوأ ايام حياته، كما يشير اليها بنفسه، في ظل الثورة التي جاهد هو نصف حياته في سبيل انتصارها، وخلال حكم تلامذته ممن كانوا يستأذنونه للانضمام الى المجلس قبل عزله، ليست مذكرات عادية لعالم دين دخل السياسة من بابها الاوسع، ورفض الصمت حيال انتهاك حقوق المؤمنين وهتك حرمة الناس، بل ان منتظري يضع امام قارئ مذكراته اكثر من نصف قرن من تاريخ ايران الحديث كشاهد عيان، ويكشف عن اسرار لم يعرفها سوى هو وقليل من اركان الثورة والنظام في ايران.

و«الشرق الأوسط» اختارت فصولا من مذكرات منتظري لقرائها لاضاءة بعض الزوايا المظلمة من تاريخ الجارة الكبيرة ايران.

وما يجب ذكره قبل استعراض مذكرات منتظري، انه بسبب ايمانه بمبدأ الوحدة بين المسلمين وضرورة ازالة الخلافات بين الشيعة والسنة، وكونه رائدا في دعم القضية الفلسطينية منذ السنوات الاولى لانطلاق الثورة الفلسطينية التي كان بعض مراجع قم افتوا بعدم مناصرتها بسبب كون قادتها من السنة، يحظى بمكانة خاصة لدى اهل السنة في ايران وخارجها، كما ان علاقاته الوثيقة مع ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية القريبة من السلطة الوطنية وعلماء المسلمين في مختلف انحاء العالم الاسلامي، تظل وثيقة رغم انه يعيش تحت الاقامة الجبرية بعيدا عن الاتصالات الرسمية.

«ولدت في بيت صغير بمدينة نجف آباد القريبة من اصفهان. والدي كان فلاحا، ورغم امتلاكه مزرعة وحديقة، غير انه كان يعمل مزارعا لأحد المالكين. وفي ذلك الحين، اي قبل اكثر من سبعين عاما، كان في مدينتنا احد علماء الدين المحترمين، اسمه الحاج شيخ احمد حججي الذي خلافا لأقرانه، كان يختلط مع الناس وينصحهم بتعلم العلوم والدروس الدينية. ووالدي مثل العديد من ابناء نجف آباد كان يحضر دروس الشيخ احمد وتعلم فيها مقدمات اللغة العربية والعلوم الدينية، كما كان حافظا للقرآن. وحتى اواخر عمره كان يخطب ويقيم صلاة الجماعة الى جانب عمله في المزرعة.

وفي البداية تتلمذت عليه، كما ذهبت الى المدارس القديمة (الكتاتيب)، غير انني تركت المدرسة بعد ان تعرضت الى الجلد على ايدي احد المعلمين. وبعد فترة، ارسلني والدي الى اصفهان حيث حضرت دروس الشيخ منصور في الادب.

وفي عام 1314 الشمسي (1937 الميلادي) وبعد بلوغي سن الـ13 عاما، جئت الى مدينة قم حيث كان الحاج شيخ عبد الكريم حائري يزدي المرجع الكبير يرأس الحوزة. ونظرا الى ان الحكومة في ذلك الحين كانت تجري امتحانا للراغبين في الانضمام الى المدارس الدينية في الحوزة وممن كانوا يريدون ارتداء العمامة، فانني شاركت في الامتحان ونجحت. وقد مضى اكثر من عشرة شهور على اقامتي في مدينة قم دون ان اقبض الشهرية (المبلغ الذي يدفعه مراجع الحوزة الى الطلبة والمدرسين كراتب شهري). وكان والدي يعطيني نصف ريال ولم يكن هذا المبلغ يكفي لشراء الغذاء، ناهيك عن بقية الاشياء.

كنت أشتم رائحة الحلويات لعدة اشهر من دون ان اكون قادرا على شراء قطعة منها. ومرة قابلت الحاج شيخ عبد الكريم في حمام خان، وقال له الشيخ ابراهيم، احد معافي: هذا هو الشاب الذي طالبتكم بمنحه الشهرية. وسألني الشيخ عبد الكريم عن كتاب السيوطي وبعد ان قرأت له شعرا من الكتاب سمح بمنحي عشرة تومانات بالتقسيط. بقيت في قم حوالي عشرة شهور قبل عودتي الى اصفهان، حيث نزلت بمدرسة «الجدة الكبيرة»، وكان مبلغ الشهرية ريالين، كما ان بعض الاخيار كانوا يكرموننا بين الحين والآخر برغيف من الخبز».

ويتحدث آية الله منتظري بعد ذلك عن سنوات دراسته في «أصفهان» و«قم»، حيث نال اجازة الاجتهاد وهو ما يزال شابا، ويتذكر اساتذته والعلماء الكبار ممن تتلمذ عليهم، كما يشير الى سنوات حكم رضا شاه بهلوي والد الشاه الاخير الراحل محمد رضا بهلوي بمرارة شديدة بسبب قرار رضا شاه بنزع حجاب النساء وفرض ارتداء الزي الغربي (البدلة والبنطلون وربطة العنف والقبعة) على الرجال، ويكشف منتظري انه لم يكن يرتدي العمامة والعباءة في تلك السنوات، اذ ان العلماء الكبار فقط كان مسموحا لهم الظهور بالزي الديني».

وبعد ذلك يتحدث منتظري عن سنوات الحرب العالمية الثانية وخروج رضا شاه من البلاد، واستقرار المرجع الشيعي الكبير الراحل آية الله سيد حسين بروجردي في قم وتتلمذه عليه، وعن العلاقة الوثيقة التي نشأت بينه وبين بروجردي.

ومما يتذكره منتظري عن هذه الفترة: «كنا انا والمرحوم مرتضى مطهري (عضو مجلس قيادة ثورة 1979، اغتيل في بداية الثورة على ايدي تنظيم اصولي متطرف عرف باسم: الفرقان) نرغب في زيارة آية الله بروجردي ومحادثته عن كثب. وفي فصل الصيف ذهب آية الله الى مسقط رأسه مدينة بروجرد وذهبنا نحن ايضا الى بروجرد، حيث حضرنا لمدة اربعين يوما دروس بروجردي. ونظرا الى ان معظم الذين كانوا يحضرون الدروس هم من كبار السن والعلماء المعروفين، فاننا لم نجلس في الصفوف الامامية».

ويشير منتظري الى سنوات حكم رئيس الوزراء الوطني الدكتور محمد مصدق، الذي كان بعض المراجع معارضين له بسبب مواقفه السياسية وتسامحه حيال نشاط الاحزاب اليسارية والشيوعية، ويقول «في هذه السنوات، ولدت حركة ثورية اسلامية باسم (فدائيي الاسلام) تحت زعامة رجل شاب، كان قد درس في المعهد الفني قبل التحاقه بالمدارس الدينية، هو نواب صفوي. وكان نواب صفوي متحمسا لفكرة الوحدة الاسلامية وسافر الى مصر والتقى قادة حركة الاخوان المسلمين وشيوخ الازهر، وفي الحوزة الدينية بقم كان الطلبة يؤيدون مواقفه وتوجهات نواب صفوي ونائبه حجة الاسلام واحدي، بينما المراجع الكبار اعتبروا ممارسات نواب صفوي وآراءه الثورية الراديكالية مخالفة لمبادئ الشريعة والنظام المطبق في الحوزة.

وآية الله بروجردي الذي تعرض للاهانة من قبل بعض الطلبة المؤيدين لنواب صفوي في بداية انطلاق حركة (فدائيي الاسلام)، اتخذ موقفا سلبيا تجاه الحركة، وكل من ايدها ومنهم الامام الخميني الذي كان في ذلك الحين احد المدرسين البارزين في الحوزة».

ويتذكر آية الله منتظري في هذا الفصل من مذكراته: «نحن كنا متعاطفين في قلوبنا مع نواب صفوي ورفاقه بسبب حملاتهم ضد الشاه ورجال الحكم. لقد ذهب بعض المشايخ في الحوزة الى بروجردي وقالوا له ان الخميني ومطهري من حماة نواب صفوي، وهما يثيران مشاعر الطلبة ضدكم. هكذا كان الوضع في قم في بداية انطلاق حركة تأميم النفط وثورة مصدق. وقد ذهب نواب صفوي من قم الى طهران وانضم الى آية الله كاشاني الذي عمل في البداية مع مصدق وسانده ووصل لفترة الى رئاسة مجلس الشورى الوطني».

ويروي منتظري كيفية تعامل الحوزة مع انشاء اسرائيل والحرب الاولى بين العرب واليهود في جزء آخر من مذكراته، ويقول: «لقد احتل اليهود ارض فلسطين وطردوا المسلمين من وطنهم، وقيل آنذاك، ان ايران بصدد الاعتراف باسرائيل. لقد كان آية الله العظمى محمد تقي خونساري من المراجع الكبار، الذين تعاونوا مع آية الله كاشاني في تعبئة الرأي العام ضد اسرائيل ولصالح الشعب الفلسطيني.

وممن لعبوا دورا مهما في هذا الصدد لا بد ان اذكر المرحوم (العلامة) رضا الصدر شقيق الامام موسى الصدر ونجل المرجع الراحل آية الله العظمى الصدر. وفي اجتماع عقدناه في قم تحدث رضا الصدر والسيد جواد حسيني عن الطلبة المتحمسين للقضية الفلسطينية، قال حسيني: في هذه اللحظات يواصل اليهود ذبح المسلمين، ونحن صامتون. لا بد ان نتطوع للقتال ضد اليهود وسأذهب انا غدا واسجل اسمي للجهاد. وفتح بعد ذلك دفترا في مدرسة الفيضية لتسجيل اسماء المتطوعين. وكان الطلبة يأتون لتسجيل اسمائهم للذهاب الى فلسطين. كيف؟ وبأي وسيلة؟ والطالب منا لم تتجاوز شهريته 15 ريالا؟ على اية حال ذهبنا جميعا الى بيت بروجردي، لاعلان استعدادنا للقتال، وحركتنا هذه اثارت الخوف والذعر لدى الحكومة، فأرسل رئيس الوزراء مدير الشرطة العميد ايزدي الى قم وهو شقيق اية الله ايزدي، وقد طمأن العميد ايزدي بروجردي على ان الحكومة لن تعترف باسرائيل، وان المسيرات التي تنطلق في قم يقف وراءها ابن آية الله الصدر الذي يريد النيل منكم (بروجردي) لصالح والده كي يصبح مرجعا اعلى للشيعة».

يتبع في الحلقة القادمة.

* معركة تأميم النفط

* خلافات مصدق وكاشاني

* موقف الخميني حيال مصدق

* بعد سقوط مصدق ومعركة الروحانية