كولن باول سيختط سياسة خارجية تميل إلى التريث ولا تتعجل في استخدام القوة

TT

تعتبر المواجهة العاصفة التي جرت داخل اروقة البيت الابيض عام 1993 اسطورية في واشنطن. ففي جلسة تقييم الاوضاع التي عقدت داخل غرفة مغلقة بلا نوافذ داخل البيت الابيض، جادل الجنرال كولن باول بشدة ضد التدخل العسكري الاميركي لانهاء الحصار المضروب على سراييفو.

وحذر قائلا «ان اي من الخيارات المتاحة لا يضمن قيام الصرب بتغيير تصرفاتهم... كذلك ما هو الهدف السياسي للتدخل؟ وما هي الاستراتيجية الموضوعة كمخرج بعد التدخل؟» حينها ردت مادلين اولبرايت السفيرة الاميركية لدى الأمم المتحدة آنذاك والاحباط باد على وجهها «ما الهدف من امتلاك هذا الجيش العظيم الذي تتحدث عنه دائما ان لم يكن بوسعنا استخدامه؟» ويستذكر باول انه شعر بحنق شديد حينها الى حد «شعوري بان شراييني ستنفجر». ورد باول رئيس هيئة الاركان المشتركة آنذاك بحدة قائلا ان قواته ليست «جنودا من بلاستيك» حتى يلعب بها «لعبة شطرنج دولية».

يلخص هذا الحوار جوهر فلسفة باول والخلافات العميقة بين وزيرة الخارجية الحالية ووزير الخارجية المقبل لجهة الاسلوب والمضمون معا. فخلال اعوامه الـ35 في الجيش، شق باول طريقه من مجرد ضابط شاب فقد مسدسه ذات مرة، الى حراسة سلاح نووي وحتى اصبح مستشارا للامن القومي في البيت الابيض يتعامل مع القوى النووية في العالم. وغالبا ما يميل الى الانتقاء المحدود في استخدام الولايات المتحدة قوتها وتأثيرها خارج حدودها.

ويحتفظ باول تحت زجاج مكتبه في البنتاغون بعبارة مقتبسة عن المؤرخ الاغريقي يفضلها تقول «من بين جميع تجليات القوة، يعد الانضباط الاكثر اثارة لاعجاب الرجال».

وهذا التحوط هو الذي سيدمغ هذا الرجل الذي كان يمكن ان يصبح رئيسا، ربما عن اي من الحزبين، بدل ان يكون وزيرا للخارجية كما اعلن عن ذلك السبت الرئيس المنتخب جورج بوش. غير انه وبسبب منزلته البطولية ومؤهلاته الكبيرة، فانه من المستبعد ان يختزل باول الى مجرد قائم محدود بامور السياسة الخارجية الاميركية لادارة بوش.

وفي هذا السياق يعلق كينيث دوبرشتاين رئيس هيئة الاركان زمن الرئيس السابق جورج بوش (الأب) والمستشار السياسي المقرب لباول قائلا «ان باول بصفته جندي مشاة سابقا، على استعداد للسير الى مواقع المواجهة الخطرة عند اندلاع ازمات، غير انه لا يفعل ذلك الا في سياق استراتيجية كبرى وبشكل مبدئي اخلاقي، وقبل ذلك توفر استراتيجية انفضاض»، ويضيف «انه ينتقي المعارك التي يريد الانخراط فيها، ولا يترك اي امر يشتغل به دون الفراغ الكامل منه».

وكان ما يسمى «مبدأ باول» واضحا بعد اجتياح العراق للكويت عام 1990. اذ فضل باول حينها العقوبات على استخدام القوة لارغام الرئيس صدام حسين على الانسحاب. وعارض باول استخدام القوة العسكرية ما لم يكن النصر مضمونا، بمعنى خوض حملة غير مسبوقة بمستوى غير مسبوق لخوض حرب اقليمية. غير انه وبعد ان اصبح استخدام القوة خيارا مفضلا، رسم بنفسه عملية عاصفة الصحراء، واقنع ادارة بوش بنشر نصف مليون جندي من قوات 31 دولة، مما افضى الى هزيمة العراق وتحرير الكويت، واضفى عليه نجومية غير معهودة كشخصية عسكرية.

وبعد عقد من ذلك، بات باول رمزا اميركيا فعليا، بصفته مكافحا من السود استطاع هزيمة كل تحديات الفقر والتمييز ليصبح جنرالا يحمل اربعة نجوم. ورغم وجود بعض المنتقدين لباول على الازمات السابقة، الا انه يتمتع بشعبية اوسع من الرئيس ونائبه الذين سيعمل الى جانبهما، فهو يمثل بالنسبة للكثيرين، تجسيدا للحلم الاميركي.

ومثل انضمامه للجيش عام 1958 واحدا من ثلاث منعطفات مهمة شكلت مسار حياة باول. فقد عثر على وظيفة «مشرفة ومفيدة» اما منافعها فكانت «اكبر من كل ما تخيلته او تأملت به»، وكما يسترجع باول في مذكراته كان ذلك «رحلتي الاميركية».

ونال رتبته العسكرية في الجيش بعد عقد من انضمامه، اثر صدور امر تنفيذي من الرئيس ترومان يقضي بدمج اقسام الجيش الاميركي. وخلال فترة التدريب، رفضت خدماته في مطاعم وحانات «جورجيا» بسبب لونه الاسود.

اما المنعطف الثاني في حياة باول، فكان حصوله على زمالة من البيت الابيض عام 1972 ساهمت في ربطه بالشخصيات النافذة في واشنطن، ومن بينهم وزير الدفاع السابق كاسبر واينبيرغر ومستشار الامن القومي السابق فرانك كارلوتشي.

ويستذكر واينبيرغر قائلا «لقد عمل بجد وجدارة مع العسكريين والمدنيين داخل البنتاغون، اما في الاجتماعات المختلفة فتميز باستعداده الافضل ومعرفته الافضل باجندة اللقاءات اكثر من اي شخص آخر»، ويردف «لهذا، كان له دائما تأثير جوهري على خلاصات اللقاءات».

ويتمثل المنعطف الثالث، في تعيين باول نائبا لمستشار الامن القومي في ظل ادارة رونالد ريغان عام 1987، بعد كشف فضيحة ايران كونترا. وخلال عام واحد، تمكن من الوصول الى المنصب الاعلى. وبعد عامين، عندما كان لا يتجاوز الـ52، اصبح باول رئيس هيئة الاركان المشتركة الاصغر سنا. وبعد ذلك تقاعد عام 1993. وخلال الاحاديث التي تناولت عام 1994 احتمالات ترشح باول للانتخابات الرئاسية، كشفت استطلاعات الرأي التي اجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» ومجلة «التايمز» وشبكة «سي بي اس» وشبكة «سي ان ان» عن ان باول يمكن ان يفوز باصوات اكثر من بيل كلينتون في سباق انتخابي من جولتين، واصوات اكثر من كلينتون وبوب دول مجتمعين في انتخابات من ثلاث جولات.

ومن جهات عديدة، ترشح السيرة الذاتية باول وتجعل منه خيارا منطقيا لمنصب وزير الخارجية. فقد خدم من قبل في مناصب الامن القومي العليا الاخرى. كما اشرف على ادارة وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون)، التي تعتبر وزارة الخارجية بقربها اصغر لجهة عدد الموظفين والميزانية. فضلا عن معرفته بزعماء العالم، من الملكة اليزابيث الثانية، التي منحته وسام الفارس عام 1993، الى قادة دول الخليج الذين تعرفوا عليه ابان حرب تحرير الكويت.

علاوة على ذلك، لا يمكن قولبة باول، فقد قال لصحيفة «لوس انجليس تايمز» بعد ان اصبح مستشارا للامن القومي في ظل ريغان «انا لم اتسلم هذا المنصب لاكون استراتيجيا كبيرا، وخلفيتي مغايرة لذلك».

اما كوزير للخارجية فان «زياراته ورحلاته ستكون ذات اهداف محددة، وسيمنح مساعديه مزيدا من القوة. ولن يتوجه الى كل بقعة تسودها الاضطرابات للتفتيش عن مخرج»، حسبما يرى ريتشارد ارميتاج السكرتير السابق المساعد لباول في البنتاغون ومستشاره وصديقه.

ومن بين التحديات الاولى الماثلة في وجه باول ما سيقرره ازاء الرئيس العراقي صدام حسين عدوه القديم الذي ساعده في ان يصبح بطلا اميركيا. وكما يوضح احد ضباط الاستخبارات الاميركية البارزين الذين ساهموا في حرب الخليج وطلب عدم ذكر اسمه فان «باول كان من بين الاسباب الرئيسية وراء بقاء صدام حسين في السلطة، لا لاننا امسكنا عن دخول بغداد، وهو امر لم نملك التفويض ابدا على الاقدام عليه. ولكن لان باول احد الذين اعتقدوا آنذاك اننا دمرنا او اضعفنا الحرس الجمهوري الى حد كاف لازالة خطره. فضلا عن ذلك، فان حساباته كانت تقول بان اي جيش يمنى بهزيمة منكرة فانه ينقلب على قيادته»، ويردف «في كلا الحالتين، كان باول مخطئا، ومخطئا جدا».

كما واجه باول انتقادات بشأن قضايا اخرى. فابان فضيحة ايران كونترا، اذ ان اسمه كان الثالث في قائمة اسماء ضمت 16 شخصا كانوا يعرفون بسر مبيعات الصواريخ الى ايران عام 1986، حسب بعثة «تور» التي تولت التحقيق في الفضيحة. وفي التحقيقات التي جرت آنذاك، وبخ المدعي العام الخاص لورنس والش كولن باول على شهادته «المضللة» التي كان يمكن استخدامها في «التشكيك في صدقيته».

مع ذلك، فان الجميع ومعهم المنتقدون يسلمون بوجود قلة قليلة من الاشخاص يتمتعون بخبرة موازية لباول في شؤون السياسة الخارجية، فقد تصدى لنحو 28 ازمة خلال اعوامه الاربعة التي قضاها على رأس البنتاغون.

ويقر باول بالتغيرات العظيمة التي حلت منذ عمله الى جانب ادارة بوش. فلاول مرة، تجد اميركا نفسها بلا عدو يتحدى نظامها السياسي او الاقتصادي، حسبما عبر باول في خطاب مهم له امام المؤتمر الجمهوري هذا الصيف. كما حذر من «الدول المريضة» التي تواصل تدافعها وراء «البريق الخادع» للطغيان واسلحة الدمار الشامل. وتوفر السيرة الذاتية لباول اشارات على الصورة التي يحب ان يعمل من خلالها. فهو ينتقد ادارة كلينتون على نقاشاتها غير الباتة ويشبهها بـ«لقاءات خريجي المدارس او المشاركين في الندوات». كما عبر عن صدمته عندما تجادل موظف ثانوي لمستشار الامن القومي انتوني ليك مع مسؤوله علنا امام الآخرين.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)