أمهات فلسطينيات يتحدثن لـ«الشرق الأوسط» عن فقدانهن أبناءهن برصاص الإسرائيليين في انتفاضة الأقصى

سمير ترك 8 بنات صغيرات وصلاح لم يمض على زواجه شهر وأبو الشرخ كان المعيل الوحيد لعائلته وأم ماهر لم تستطع منع ابنها من المشاركة في المظاهرات

TT

مع بداية الشهر الرابع لانتفاضة الأقصى التي اندلعت دفاعاً عن المقدسات وتعبيراً عن رفض الواقع والمماطلات الإسرائيلية، في عملية السلام، رداً على الزيارة الاستفزازية التي قام بها زعيم الليكود ارييل شارون للحرم القدسي الشريف في 28 سبتمبر (أيلول) الماضي.

وخلال الأشهر الثلاثة الماضية من عمر الانتفاضة فقدت حوالي 303 أمهات فلذات أكبادهن، والحبل جرار مع تواصل الانتفاضة والإصرار على استمرارها حتى تحقق الاستقلال الفلسطيني.

وفي هذه المناسبة التقت «الشرق الأوسط» عدداً من الأمهات الثكالى في قطاع غزة، ولكل منها قصتها مع ابنها قبيل رحيله عن هذه الدنيا في سبيل الوطن.

فهناك ام اسماعيل شملخ ذات الوضع الاجتماعي والاقتصادي العالي، التي فقدت بكرها اسماعيل أوائل أيام الانتفاضة. تقول ام اسماعيل إنه لولا إيمانها بالآخرة وحسابها وخوفها من الله لحفرت قبر بكرها وسكنت إلى جانبه إلى الأبد.

ومأساة أم سمير عليون أكبر فقد خلف ابنها الوحيد سمير وراءه ثماني بنات صغيرات، وتحكي والدموع تتفجر من عينيها «ذهب سامحه الله وترك في صدري لوعة لن تفارقني حتى المماة».

وفقدت حفيظة أم صلاح ابنها وهو ما يزال عريساً ولم يمض شهر واحد على زواجه عندما أردته رصاصات جنود الاحتلال قتيلاً في غزة. وما يحز في نفسها أنه قضى نحبه ولم يخفف حلمها بإنجاب أحفاد لها.

وتقول أم ماهر الصعيدي ان أكثر ما يزيد عيشها تنغيصاً هو مداومة ابنها الصغير (5 سنوات) ذكر أخيه الشهيد. وأم ماهر كانت تحرص على عدم مشاركة ابنها في انتفاضة الأقصى بعد إصابته برصاصة في انتفاضة (النفق 1996) برصاصة شلت ذراعه. ولكن محاولاتها باءت بالفشل ولم تستطع أن تحمي ابنها من مصيره في انتفاضة الأقصى.

وقصة محمد أبو الشرخ تعكس الوضع المأساوي الذي يعيشه العديد من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد كان أبو الشرخ المعيل الوحيد لأسرته، فأبوه مصاب بتليف في الكبد وأمه مريضة بسرطان الرئة واخته مطلقة ومصابة بالصرع وبنت أخته التي تعيش مع الأسرة مصابة أيضاً بحالة نفسية صعبة، التزم العمل من أجل قوت أسرته لكن رجليه قادتاه إلى حتفه يوم استشهاده.

وذهبت أم أيمن اللوح لزيارة ابنها الأصغر الذي أصيب بجروح قرب مستوطنة نتساريم لتفاجأ بمقتل ابنها الأكبر. وتقول إنها كلما تتذكر يكاد يغمى عليها.

وتقول أم محمد العجلة ان هواية ابنها كانت جمع صور الشهداء. وكان ابنها محمد ينفق مصروفه اليومي على أجرة السيارة التي كانت تقله يومياً إلى خط المواجهات في معبر المنطار. فقطعت والدته مصروفه حتى تمنعه من الذهاب ولكنه في اليوم الذي استشهد فيه وجد شيكلاً على الأرض فقال لأصحابه انه سينفقه على أجرة السيارة، لكنه لم يكن يعلم أنه الشيكل الذي سيوصله إلى مصيره المحتوم.

في باحة البيت الفاخر الذي تسكنه عائلة شملخ في حي «الشيخ عجلين» احد الاحياء «الراقية» في مدينة غزة ترسل ام اسماعيل شملخ نظراتها الولهى الى البحر الذي لا يفصله عن البيت الا الشارع ومحطة شرطة صغيرة، بينما يحيط بها ابناؤها الخمسة. تمسك بمسبحتها الطويلة وبعد طول تفكير تقول «والله لولا انني اؤمن بان هناك اخرة وحساباً بعد الآخرة وان الله سيجزيني خيرا في مصيبتي، لحفرت قبره ولسكنت بجانبه الى الابد». بعد خمسة اسابيع على مقتل ابنها اسماعيل (20 سنة) ما تزال ام اسماعيل ترى ابنها في كل شيء كما تقول. الذي ينظر الى البيت الفخم الذي تسكنه العائلة فانه بسرعة يتولد لديه الانطباع ان هذه العائلة اوتيت من كل نعيم الدنيا، وكما تقول الوالدة فان ارث اسماعيل وحده هو سبعون دونماً من ارض الشيخ عجلين التي يصل سعر الدونم فيها الى مائتي الف دولار اميركي تقريبا، لكن ابنها كان يحدث نفسه دوما بالشهادة من اجل فلسطين، وكان يعد نفسه ليوم يقتل فيه في سبيل الله، كما تقول هذه السيدة التي تبدو مظاهر الهيبة والكبرياء والوقار على محياها. اسماعيل وابن عمه مروان كانا يحرصان على صيام الاثنين والخميس من كل اسبوع وكانا معاً يقيمان الليالي بالصلاة والدعاء لان يرزقهما الله الشهادة في سبيله. احد الاصدقاء المقربين لاسماعيل الذي انضم لحديثنا مع الأم قال انه اسماعيل اخبره قبل شهر من اندلاع انتفاضة الاقصى ان يتوق لواقع يسود فيه «الجهاد»، وانه فكر ان يسافر الى الشيشان لكي يجاهد فيها الى جانب صفوف الشيشان.

ويقول هذا الصديق انه زجره عن مجرد التفكير في هذا الاتجاه. تقول ام اسماعيل وهي سيدة لم تتجاوز الخامسة والاربعين من عمرها انه منذ يوم اندلاع انتفاضة الاقصى، تغير برنامج اسماعيل ومروان اليومي بشكل كامل فقد كان الاثنان يتوجهان منذ السابعة الى مفترق الشهداء القريب من مستوطنة نتساريم الواقعة الى الجنوب من مدينة غزة وكانا يشاركان في المواجهات التي تندلع هناك.

يقول صديق اسماعيل انه كان يغضب غضبا شديدا لانه لم يستشهد اثناء هذه المواجهات، وانه كان يتعمد الاقتراب من الجنود لكي يقتل. تقول ام اسماعيل انه على الرغم من انها كانت تحب ابنها بكل قوة الا انها ونظرا لعناده سلمت بالسماح له بالذهاب للمواجهات. ولما لم تتحقق امنية اسماعيل فكر في ان يذهب الى الضفة الغربية عساه يلقى ما يحلم به هناك، وكما تقول والدته فقد اخبرها انه بصدد الذهاب لرام الله بحجة جلب ثلاجات وبيعها في غزة، لكنه اصر قبل سفره على والديه بأن يسامحاه وان يدعوّا له، كان هذا في الثاني من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تضيف ام اسماعيل انها صعقت عندما جاءها احد الجيران ليخبرها انه سمع ان اسماعيل قد قتل في مواجهات اندلعت في اليوم التالي لوصوله إلى رام لله (3/10) بالقرب من فندق «السيتي ان»، تقول هذه الام انها حزنت حزنا شديدا على فراق ولدها اسماعيل، لكنها مع ذلك قررت ان تشدد على ابن عمه مروان ألا يخرج للمواجهات. وأضافت «لم نكن في العائلة نتحمل أي مصيبة اخرى، فاستحلفت مروان بالله ألا يخرج للمواجهات حتى يبقى لأمه ولي، اذ كنت ارى فيه اسماعيل»، وحثت ابوه على التدخل من اجل اقناعه بعدم التوجه إلى هناك، لكن مروان وفي اليوم الثاني لمقتل ابن عمه اسماعيل، توجه مرة اخرى الى مفترق الشهداء، ولم يقبل ان يمكث في بيت العزاء الكبير الذي اقيم بالقرب من منزل العائلة. وفي السادس من أكتوبر الجاري سقط مروان بعد اصابته برصاصة في الظهر توفي على اثرها على الفور. تحرص ام اسماعيل على عدم النظر الى من يحدثها وتتحدث وهي ترسل بنظراتها إلى عباب البحر المترامي امام ناظريها، وبالنسبة لها فان ابناءها الخمسة الذي بقوا لها لا يشاركون في الانتفاضة، وهي مطمئنة الى انهم لن يخالفوا امرها، لكن في المقابل فان هذه المرأة ترفض ان يتم ايقاف الانتفاضة بعد سقوط هذ العدد الكبير من الضحايا من دون أي يكون الثمن جلاء الاحتلال الاسرائيلي عن الضفة الغربية وقطاع غزة.

ذهب سامحه الله تلتفت يمنة ويسرة، تحاول ان تخفي عبراتها عن بنات ابنها الثماني الصغيرات، في باحة بيت الصفيح البائس في الطرف الجنوبي من حي الشجاعية في مدينة غزة. تفترش ام سمير عليوة (اربعة وثلاثين عاما) قطعة حصير بالية تحاول ان تهدئ من روع جميلة (عشر سنوات) بنت ابنها سمير الوحيد الذي قتل في الثاني من أكتوبر الماضي اثر اصابته بعيار ناري متفجر في الصدر. فجأة تفقد الام صبرها وتنفجر مجهشة بالبكاء وهي تقول: «ذهب سامحه الله وترك في صدري لوعة لن تفارقني حتى الممات». تتحدث ام سمير عن ابنها الوحيد الذي عاش حياة الفقر طول عمره وقبل ان يعمل في اشق الاعمال من اجل ان يوفر ابسط المتطلبات التي تحتاج إليها أي اسرة. تجاعيد وجهها المتراكمة تحكي الكثير، تتحدث عن مأزق حقيقي تعيشه هذه المرأة الفقيرة، خلف الجدار.. تتدخل زوجة سمير نوال قائلة: «ذهب سامحه الله وتركني مع كوم من اللحم، لا ادري ما دهاه، لا ادري كيف بامكاني ان اتدبر حياتي مع هؤلاء». تتحدث ام سمير وزوجته عن التحول الكبير الذي طرأ على حياته بمجرد ان اندلعت انتفاضة الاقصى، تقول امه: «لقد اكتشفت انه يترك عمله في السوق (كان يعمل حمالا) ليذهب لمناطق الاحتكاك مع الجيش الاسرائيلي حيث كان يشارك في المواجهات مع جنود الاحتلال. وانها عنفته ايما تعنيف عندما علمت انه يترك العمل لكي يذهب إلى هناك، وقلت له: «قبل ان تذهب لكي تقتل على ايدي اليهود تذكر بناتك الثماني وابنك الوحيد موسى»، تضيف الام انها تولد لديها انطباع قوي انه لن يعود للمواجهات حيث لاحظت انه شعر بالخجل الشديد من كلامها. وفي اليوم الذي قتل فيه سمير وبعد ان خرج للعمل صعقت زوجته وهرعت الى امه، فقد وجدت اثناء توظيبها لفراش سمير ورقة مكتوبا عليها «الشهيد سمير عليوة». تقول زوجته انه قد تولد لديها شعور قوى بأن سمير لن يعود حيا للبيت، وبالفعل في الساعة الثانية عشرة ظهرا جاء ابن الجيران ليخبر ام سمير ان ابنها قد قتل في المواجهات التي جرت صباح ذلك اليوم بالقرب من منطقة «المنطار» شرق مدينة غزة، تتقدم جميلة كبرى بنات سمير التي تبلغ العاشرة من عمرها لتواسي جدتها وبمقدمة ثوبها تقوم بمسح دموعها التي لم يتوقف تدفقها من مآقيها. الهيئات الخيرية واهل الخير التفتوا لهذه الاسرة المعدمة التي تحاول اخفاء مصابها، ولجان الزكاة بصدد شراء قطعة ارض لهذه العائلة واقامة بيت يأوي ام سمير وزوجته واولاده التسعة، عندما هممنا بمغادرة البيت سألنا عن موسى، فخرجت جميلة لتدلنا عليه، كان يلعب مع اترابه في الحي، حيث كانوا يمثلون انطلاق مسيرة وكان هتافها الوحيد «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود».

استشهد بعد زفافه بشهر أكثر ما يثير حفيظة ام صلاح ابو قينص من حي الغفري في مدينة غزة انه رحل عن الدنيا وهو ما يزال عريسا، ففي اليوم الذي سقط فيه لم يكن قد مضى على زفافه اكثر من شهر فقط، لا تخفي ام صلاح سبب حزنها الشديد، فهي وإن كانت تحزن على مقتله لانه ولدها، فان ما يضاعف هذا الحزن انه رحل وهو عريس ولم يحقق حلمها في ان ينجب لها احفادا. ام صلاح كما تقول لم تتوقع ان يذهب ابنها لساحة المواجهات، فقد كان قد التحق لتوه باحد الاجهزة الامنية الفلسطينية وكان يمضي فترة تدريب في احد المعسكرات شمال القطاع، وكان الانطباع لدى امه ان صلاح لن يتوجه للمواجهات لانه في فترة تدريب، لكن مشيئة الله كانت غالبة، ففي الثاني من أكتوبر الماضي، اليوم الذي قتل فيه صلاح وقبيل ان يعود للبيت عرض عليه احد زملائه مازحا ان يتوجها لساحة المواجهات في محيط مستوطنة نتساريم وذلك في الاسبوع الثاني على اندلاع انتفاضة الاقصى. وكان هذا اول يوم يستخدم فيه الجيش الاسرائيلي صواريخ لاو في تفريق المتظاهرين، وقد اصاب صاروخ راسه ففصل جسده لدرجة ان امه واهله لم يستطيعوا ان يتعرفوا عليه بادئ الامر. على الرغم من الحزن الذي يرتسم على وجه ام صلاح الا انها تتجلد وتخفي ما في داخلها، وبخلاف الكثيرات من امهات الضحايا فان دموعها شحيحة. اثناء وجودنا في بيت صلاح اذا بأحد الجيران يقول ان جنديين اسرائيليين قد قتلا في اشتباك مع مسلحين فلسطينيين شمال قطاع غزة. بشكل مفاجئ وبعفوية تامة، فاذا بام صلاح تزغرد بحرقة من دون ان تظهر على وجهها أي ملامح للفرح؟

شلت ذراعه في انتفاضة النفق واستشهد في انتفاضة الأقصى بالنسبة لميسرة (خمس سنوات) فان شقيقه ماهر الصعيدي (ستة عشر عاما) في الجنة، بالنسبة لوالدة ماهر فان مداومة ميسرة على ذكر اخيه هو اكثر ما ينغص عليها حياتها، فماهر هو كل شيء بالنسبة لميسرة. تقول الوالدة الشابة ان ابنها ماهر قد اصيب اثناء انتفاضة النفق بعيار ناري في ذراعه ادى الى شللها. لا تخفي والدته انها حرصت منذ اندلاع انتفاضة الاقصى على حثه على عدم المشاركة في المواجهات. ام ماهر تقول ان بعد مخيم البريج نسبيا عن مناطق التماس التقليدية في قطاع غزة، كان عامل عزاء لها وكانت مطمئنة إلى ان ماهر لن يكون قادرا على الذهاب الى مناطق التماس ولا سيما بسبب اعاقته في ذراعه اليمنى، لكن كما تقول هذه المرأة فقد حدث ما لم يكن في الحسبان، اذ لجأ ماهر وعدد من شباب مخيم البريج الذين تتراوح اعمارهم بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة إلى فتح ساحة مواجهات جديدة وقريبة من مخيمهم وذلك على الخط الفاصل بين قطاع غزة واسرائيل بمحاذاة مخيم البريج، بالطبع في هذه المنطقة لا يوجد جنود اسرائيليون يرابطون بشكل دائم، فاستغل ماهر واترابه ذلك وقاموا بقطع الاسلاك الشائكة التي تفصل بين قطاع غزة واسرائيل، كما تقول ام ماهر فانه في غضون نصف ساعة مرت دورية من قصاصي الاثر الاسرائيليين فشاهدوا ما يفعله الشباب الفلسطيني فاطلقوا النار عليهم فاستقرت اول رصاصة في صدر ماهر وذلك في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني). امه تؤكد ان اصابته لم تكن خطيرة لدرجة تؤدي الى وفاته، لكن غياب سيارات الاسعاف في هذه المنطقة النائية حيث ان السلطات الطبية لم تدر انه قد تنشب هنا مواجهات، فقام زملاء ماهر بحمله على الاكتاف مسافة اكثر من كيلومتر ودماؤه تنزف، وما ان حضرت سيارة الاسعاف حتى فقد ماهر كمية كبيرة منها فبمجرد ان وصل إلى المستشفى توفي متأثرا بفقد الكميات الكبيرة من الدماء. ام ماهر ترفض بكل حدة الحصول على اي مساعدات من لجان الزكاة او من المساعدات التي يقدمها اهل الخير، فاوضاع العائلة المادية جيدة الى حد ما، الامر الذي ما زالت ام ماهر تبدي تذمرها الشديد منه وبعد اكثر من عشرين يوماً على استشهاد ابنها انه كان بالامكان انقاذ حياته لو توفرت سيارة الاسعاف. ام ماهر قدمت لنا كراسة مدرسية لماهر، وهو في الصف الثاني الاعدادي وذلك عندما اصيب بالشلل جراء اصابته بالعيار الناري في انتفاضة النفق وقد كتب احد مدرسيه على هذه الكراسة «سقطت ذراعك فالتقطها، وسقطت قربك فالتقطني واضرب عدوك بي فانت الآن حر».

عائلة الأموات ابوه مصاب بتليف في الكبد، امه مريضة بسرطان الرئة، اخته مطلقة ومصابة بالصرع بنت اخته التي تعيش مع العائلة مصابة ايضا بحالة نفسية صعبة، هذا هو حال عائلة محمد ابو الشرخ الذي قتل برصاص الجنود الإسرائيليين. يقول والده ان محمد (عشرين عاما) الذي يسكن حي الزيتون بغزة هو المعيل الوحيد لهذه العائلة الفريدة في مآسيها، فقد كان صاحب «بسطة» يبيع السكريات في الميدان الرئيسي لمدينة غزة، يكسب في اليوم الواحد عشرين شيكلا تقريبا (خمسة دولارات) ومنذ خمس سنوات ومحمد يعكف على هذا العمل يخرج الساعة السابعة والنصف ويعود في الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، وكما يقول والده فان محمد وحتى بعد اندلاع انتفاضة الاقصى لم يغير من رتابة يومه، الا في اليوم الذي استشهد فيه. ففي اليوم الذي اصيب فيه خرج محمد على غير عادته مبكرا لكنه وبدلا من ان يتوجه الى الميدان الرئيسي لبيع السكريات، توجه الى المنطار حيث المواجهات بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال الاسرائيلي، إذ اطلق قناص اسرائيلي رصاصة استقرت في راس محمد. وقد قرر الاطباء ان حالته خطيرة وتستدعي نقله للعلاج في احدى الدول العربية، وقد نقل الى العربية السعودية، لكن صعوبة الاصابة جعلت وضعه يتدهور بشكل اكبر. ويقول ابوه ان ولده ميت سريريا. على الرغم من ان محمد هو المعيل الوحيد لعائلته الا أن والده يكثر من قوله تعالى «قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون». ابو محمد قد حباه الله من الصبر ما تعجز عنه الجبال، فحتى لو بقي ابنه محمد سالما معافى لكان ما يراه هذا الرجل في عائلته يكفي، وهو يقول «نحن عائلة اموات»، فامراته مصابة بالسرطان، وهي دائمة التوجع بالاضافة الى مرضه بتليف الكبد وبنته المطلقة التي تصيبها نوبات الصرع باستمرار، الى جانب بنتها المتخلفة عقليا.

لم تدري أنها تعزي نفسها ذهبت للمستشفى لعيادة ابنها الاصغر الذي اصيب في مواجهات سابقة بالقرب من مستوطنة نتساريم، وعندما همت بدخول قسم الجراحة شاهدت مجموعة من الجنود يقومون بنقل احد الجرحى واصيب بعيار قاتل في الصدر. تقول هذه المراة ان اول كلمة قالتها بشكل عفوي في نفسها «كان الله في عون امك عندما يخبرونها بما حدث لك»، زارت ابنها الاصغر وطمأنها الاطباء ان تحسناً قد طرأ على وضعه الصحي وعندما خرجت، شاهدت عددا من اقاربها وجيرانها في المكان، تقول انها احست بالاستغراب يملأ وجوههم عندما شاهدوها غير مبالية، اذ لم تكن تعلم ما الذي جلبهم الى المستشفى، فتوجهت اليهم وشاهدت ما لم يكن في حسبانها، فلقد كان الشاب المصاب الذي مر عليها قبل قليل هو ابنها الاكبر ايمن وقد فارق الحياة فور وصوله إلى المستشفى بعد ان اصيب بعيار من النوع المتفجر في الصدر وذلك في 4 أكتوبر الماضي. تقول ام ايمن اللوح من حي «بني عامر» في مدينة غزة انها كلما تتذكر هذا المشهد يكاد يغمى عليها، لولا ان الله يصبرها ويقذف الطمأنينة في قلبها.

لم يثبت صورته كان شغله الشاغل هو جمع صور الشهداء التي كان يتم توزيعها في بيوت العزاء التي تقام لهم، وكانت غرفة نومه عبارة عن لوحة كبيرة تجمع جميع الشهداء الذين سقطوا. وكما تقول ام الشهيد محمد العجلة (ثلاثة عشر عاما) من حي الزيتون ان ولدها محمد كان هاويا لجمع صور الشهداء وكان في ذلك يضحي بالوقت الكثير. تقول ام محمد من خلال بعض اولاد الحي ان محمد قد ذهب اكثر من مرة لساحة المواجهات في منطقة «المنطار»، وانه خلاف بقية الاولاد في الحي كان يستغل «المصروف اليومي» الذي كان يحصل عليه من اسرته لكي يستقل سيارة اجرة لتوصله الى اقرب نقطة ممكنة من ساحة المواجهات. قامت امه على الفور بقطع المصروف اليومي عنه، لكن ذلك لم يمنع محمد من مواصلة التوجه لساحة المواجهات. وتضيف امه نقلا عن اصحابه انه في الرابع عشر من نوفمبر، اليوم الذي استشهد فيه عثر محمد على قطعة نقدية من الشيكل، فقال لاصحابه «اليوم سأصل للمنطار بالسيارة». وتضيف امه انه لم يعلم ان هذا الشيكل هو الذي سيوصله اسرع لمصيره المحتوم، ظل محمد حتى بعد الظهر وكما يقول اصحابه فقد التفت كي يمسك بحجر فعاجلته رصاصة في قلبه، فاستشهد في الحال.