أكثر رئيس أميركي أمر بتدخلات عسكرية وغارات جوية وصاروخية

TT

في عام 1993، وبينما كان الرئيس بيل كلينتون في طوكيو لحضور قمة الدول الصناعية السبع، عرضت محطة «سي ان ان» على شاشاتها صورا لحصار الصرب المريع لسراييفو، وكان ان اصابت تلك الصور كلينتون بالانزعاج الشديد.

ولم تكن هذه المرة الاولى التي تثير اللقطات التلفزيونية لما يجري في البوسنة انزعاج الرئيس الاميركي الجديد، الذي اعترف للصحافيين في ما بعد انه كان «منزعجا جدا من قصف سراييفو».

وغالبا ما كانت تطرف عين كلينتون كلما جاء ذكر البوسنة في جلسات الصباح في البيت الابيض. ويتذكر مستشار الامن القومي الاميركي آنذاك انتوني لايك انه «كانت هناك نوبات من انفجار الغضب».

وفي طوكيو، اندفع كلينتون ووجه دعوة للقيام بعمل جريء في منطقة البلقان. وطلب من مستشاريه تحديد الخيارات الاميركية، بما فيها القيام بعمل عسكري، لوضع حد امام عمليات التطهير الاثنية الوحشية هناك. وقبل مضي وقت كاف، تغلب الخوف من مغبة الوقوع في مستنقع اجنبي على مشاعر قلق الرئيس تجاه البوسنة. اما نتيجة هذا الخوف فكان الإحجام عن التدخل العسكري في ذلك الوقت، ليتأجل القيام بعمل عسكري الى عامين، بانضمام الولايات المتحدة الى حلف شمال الاطلسي في حملة قصف جوي استمرت اسبوعين، وارغمت صرب البوسنة على القبول بوقف اطلاق النار والقبول بحضور محادثات دايتون باوهايو.

ويعلق ايفو دالدر، خبير من مجلس الامن القومي خلال عامي 1995 و1996، على تلك المرحلة بقوله «كان هناك شعور بالانزعاج... شعور بعجز الولايات المتحدة، هذه القوة العظمى، من التصدي لما يضفيه الرعب الجاري في البوسنة من اثر ضار على مصداقيتها».

ويمثل تردد كلينتون في استخدام القوة من البوسنة الى هايتي وحتى العراق وكوسوفو ارثا مهما وخلافيا لرئاسته في آن. وربما يعبر هذا الارث عن المعضلة المركزية التي تواجه السياسة الخارجية الاميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وتتلخص في امتلاك الولايات المتحدة لقوة عسكرية طاغية تنضاف اليها قوة اقتصادية لا يستهان بها، ولكن متى ينبغي عليها استخدام ذلك؟ وباختصار، بينما تحتل الولايات المتحدة وضعية القوة العظمى، لا تدري طبيعة ما تريد تحقيقه من خلال ذلك.

ويؤكد الخبراء والمسؤولون على ان كلينتون بصفته قائدا عاما للقوات المسلحة واجه توترا متواصلا بين رغبته في استخدام التأثير الاميركي في الخارج والثمن الذي لا بد من دفعه لذلك.

وينوه ستيفن والت، استاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، بان الهدف تمثل في تقليل المخاطر والاكلاف الاميركية سواء «من الدماء او الاموال»، لذلك اصبحت «العقوبات الاقتصادية والغارات الجوية والصواريخ الموجهة وسائل الدبلوماسية الاميركية المفضلة».

اما بالنسبة لعدد التدخلات العسكرية التي امر بها كلينتون فيزيد عما امر به اي رئيس سابق. وكما مضى في التدخلات العسكرية التي بدأت في ظل الادارات الاميركية السابقة في العراق والصومال. وصادق على التدخل في هايتي والبوسنة والسودان وافغانستان وكوسوفو.

وتوضح كل المؤشرات بأن ادارة بوش المقبلة تعتقد بان فريق كلينتون اعتراه تحمس مفرط تجاه لجوئه الى التدخل العسكري. وتتبع هذه الادارة «مبدأ باول»، الذي يحمل اسم وزير الخارجية المعين كولن باول، ويفيد بان على الولايات المتحدة ألا تلجأ الى استخدام قوتها العسكرية الا في حال تعرض مصالحها القومية المباشرة للخطر، ووجود استراتيجية واضحة للخروج من التدخل وانهائه في الاساس.

في المقابل، حددت ادارة كلينتون لنفسها خطوطا عامة، ولو قليلة، تسترشد بها للتدخل، او وقت الخروج منه. وتبنت الادارة ما وصفته السفيرة الاميركية في الامم المتحدة مادلين اولبرايت مدخل «القضية تلو القضية»، الذي يعتبره بعض الخبراء مجرد رد فعل براغماتي في عالم معقد، اما آخرون فينتقدونه بانه مدخل ضعيف وغير متماسك ولا يقوى على الوقوف في وجه الضغوطات السياسية قصيرة الامد.

وولد ذلك جدلا ساخنا داخل حكومة كلينتون والمعنيين بالسياسة الخارجية. لتصبح الابادة البشرية وازمات الاغاثة الانسانية، وهي المخاطر غير المرتبطة مباشرة بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، مبررات ممكنة لتدخل الولايات المتحدة.

بيد انه ومع اتساع مجالات التدخلات العسكرية للولايات المتحدة، بقي التردد ينتاب كلينتون ازاء استخدام القوة.

ومنذ البداية، ابدى الرئيس الذي تجنب الخدمة في حرب فيتنام عدم ارتياح لدوره كقائد عام للقوات المسلحة. وتركت بعثة حفظ السلام في الصومال، التي قتل فيها اكثر من عشرة جنود اميركيين خلال حروب عصابات في شوارع مقديشو عام 1993، كلينتون اكثر ترددا ازاء المخاطرة بوقوع اي ضحايا اميركيين، حسبما نوه مستشارون مقربون منه.

وحتى بعض انصار كلينتون عبروا عن قدر من القلق ازاء عدم اضطلاع اميركا بمسؤولياتها العالمية، مما دفع صموئيل هنتنغتون الى وصفها بـ«القوة المهيمنة الجوفاء».

اما لايك، الاستاذ في جامعة جورج تاون الآن، فيقول «حتى تكون لنا صلة بالعالم من حولنا ونزاعاته الداخلية المتعددة، ينبغي ان نكون على استعداد لتقديم مزيد من القوات لاجل عمليات حفظ السلام».

ويتفق مسؤولو السياسة الخارجية الكبار في ادارة كلينتون مع هذا الرأي، اذ نوه ريتشارد هولبروك السفير الاميركي لدى الامم المتحدة الى صحيفة «فايننشال تايمز» مؤخرا عن «ألخص تخوفي الاعظم حيال السياسة الخارجية الاميركية اليوم بالفجوة القائمة بين ما نردده في خطاباتنا الدعائية والمصادر التي نمتلكها»، ويضيف «اننا نواصل ادعاءنا حمل اهداف عظيمة، ولكننا لا نوفر مصادر كافية لتحقيقها».

ورغم اشارة مستشاري كلينتون الى نضجه في الاضطلاع بالدور العسكري الذي يحمله مع مضي الوقت، تواصل الاختلاف حول متى يجب استخدام القوة العسكرية. ومرارا وتكرارا، لم تحدث اي نقاط تحول في النزاعات المختلفة الا بعد تهديد الولايات المتحدة باستخدام قواتها البرية. وفي البوسنة، تأخر كلينتون في تهديده الحاسم من قيام الولايات المتحدة بعمل من طرف واحد، بما فيها التدخل بقوات برية، حتى صيف عام .1995 وكانت المذابح والبشاعات بلغت حدا مريعا للغاية، دفعت ديك موريس مستشار كلينتون السياسي على حثه القيام بعمل ما، اذ ان النزاع بات يضر بكلينتون سياسيا داخل اميركا نفسها.

علاوة على ذلك، مرت نزاعات فشلت الولايات المتحدة من التدخل فيها البتة، كما اعترف بذلك كلينتون نفسه في ما بعد، مثل رواندا التي خلفت عمليات الابادة الجماعية فيها اكثر من 800 الف قتيل، ودفعت الى هجرة مليونين آخرين عن منازلهم.

كما اقر كلينتون نفسه بالاقتصاد في استخدام القوة الاميركية في الخارج، رغم انه يسوق ذلك بنفس ايجابي.

* خدمة «كريستيان ساينس مونيتورز» خاص بـ«الشرق الأوسط»