هكذا ساعد جهاز «الموساد» إيران على إقامة مصنع لغاز الخردل

TT

خص ناشر «الشرخ الكبير» الروسي سيرغي كوروفان «الشرق الأوسط» بجزء من الفصل التاسع من الكتاب ينشر هنا للمرة الاولى، ويروي فيه توملينسون عميل الاستخبارات البريطانية « ام اي 6» السابق حكايته مع مصنع الاسلحة الكيماوية الذي سعت ايران الى انشائه منذ خرجت من حرب الخليج الاولى مصممة على حيازة اسلحة كيماوية كتلك التي استعملها الجيش العراقي ضدها بصورة مؤثرة. وهو يزعم في روايته انه لما كانت محاولة اي ايراني شراء مواد واجهزة «مشبوهة» من اوروبا، لجأت طهران الى رجل الاعمال الاسرائيلي ناحوم مانبار الذي تربطه صلات وثيقة بجهاز الاستخبارات الاسرائيلي موساد. واستعان الاخير بدوره بعدد من البريطانيين كي يلقي مسؤولية صفقته غير القانونية على اكتافهم. وكان «ضابط» الارتباط بين السمسار الاسرائيلي الذي يعيش في نيس الفرنسية وبين السلطات الايرانية المختصة ضابط امن ايرانياً رفيع المستوى ينتحل صفة موظف في سفارة بلاده في فيينا واطلق عليه توملينسون اسم الدكتور طهراني فهد. علم جهاز ام اي 6 للاستخبارات البريطانية بالصفقة التي حظيت بتأييد ودعم «الموساد»، وبدأت المراقبات والتحريات على المسرح العالمي التي تنشر «الشرق الأوسط» في ما يلي قصتها للمرة الاولى بشيء من الاقتباس.

بعدما عاد توملينسون من مهمة طويلة في البوسنة والهرسك، عرضت عليه مهمة اخرى سرية يؤديها متقمصا شخصية عضو في «فريق مفتشي الامم المتحدة عن الاسلحة في العراق» لكنه اعتذر عن عدم قبولها. وبدلا من ذلك ابدى استعداده للالتحاق بـ «قسم استهداف الانتاج ومنع التسرب» (ب. ت. س. ب) المعني بجمع «المعلومات الاستخباراتية عن محاولات الدول المنبوذة، خصوصا ايران والعراق وليبيا وباكستان، للحصول على اسلحة تدمير شامل بيولوجية او كيماوية او نووية، وبتفشيل هذه المحاولات». وما ان انضم دخل مكتبه الجديد، حتى استقبله بادجر رئيس القسم قائلا «اريدك ان تقوم بادارة بيللهوب، اضخم عمليات هذا القسم».

وبدأت المهمة الجديدة، حسب العادة، بالاطلاع على ملفات ضخمة تضم تقارير سرية ونصوص المكالمات الهاتفية بين المشبوهين الذين تراقبهم قوات الامن البريطانية فضلا عن صور ومعلومات شتى عن المشروع والمتورطين فيه كي يسهل على توملينسون الوصول اليهم واستمالتهم لمراقبة الصفقة عن كثب.

وحسب رواية رجل الاستخبارات البريطاني المنشق كانت ابرز محتويات الملف تقارير عن رجل الاعمال الاسرائيلي ناحوم مانبار الذي تشك جهات الامن البريطانية بتعاونه مع جهاز «موساد». واولى الوثائق المتعلقة بهذا الاسرائيلي التي وقعت عليها عين توملينسون كان تقريرا عن «احتجازه في مطار هيثرو (...) حيث عثر رجال الجمارك في سياق عملية تفتيش روتينية في حقيبته الشخصية على اوراق ومخططات بدا انها تصف عملية انتاج غاز الخردل». ولما سئل عنها، زعم انه مهندس زراعي وضع هذه المخططات لانتاج مبيدات حشرية، ولم يكن بالامكان توجيه اي تهمة له لعدم وجود ادلة كافية على رغم ان قصته لم تقنع السلطات الامنية البريطانية. غير ان جهاز ام اي 6 طلب من فرع الاستخبارات الداخلية الفرنسية (د. اس. ت) مراقبته.

ومن خلال «مراقبة هاتف منزل مانبار وهواتف اخرى، خلص «د. اس. ت» الى نتيجة مفادها انه «حصل في عام 1988 على مخططات لانشاء مصنع لغاز الخردل باعها لقاء مبلغ محترم للدكتور طهراني فهد، الدبلوماسي الايراني في سفارة طهران في فيينا، الذي كان في حقيقة الامر ضابط امن ايرانياً رفيع المستوى والمسؤول عن اقامة برنامج السلاح الكيماوي الايراني. لكن هذه المخططات، لا تمثل سوى أولى مراحل المشروع. وكان فهد في حاجة الى بعض المعدات الخاصة (بإنتاج غاز الخردل) والمواد الكيماوية اللازمة لإقامة المصنع. فكلف مانبار بتأمين تلك الاحتياجات».

«ومع أن مانبار كان حريصاً على ملايين الدولارات التي سينالها اذا انهى الصفقة نهاية ناجحة، فقد كان متردداً بالتورط بادئ الأمر لأنه أدرك أنه يخوض أعمق فأعمق في مياه عكرة من الناحية القانونية. وفيما كان يدرس الخيارات المتاحة له، علمت «موساد» بالاتصالات التي اجراها مع فهد. وهنا امروه (جهاز الاستخبارات الاسرائيلي) بالحضور لعقد اجتماع في مقر السفارة الاسرائيلية في باريس، حسبما ذكرت تقارير «د. إس. ت» المستخلصة من المكالمات الهاتفية التي راقبوها. لم تتوفر تقارير استخباراتية عن هذا الاجتماع، لكن انكب مانبار بنتيجته على المشروع بحماس متجدد غامض. وبدأ يبحث عن شخص (...) يستطيع ان يعتمد عليه للقيام بغباء بالاعمال غير القانونية التي تهدف الى الحصول على المعدات».

ويزعم توملبسون انه سرعان ما وقع خياره على سيدة بريطانية متوسطة العمر اسمها جويس كيدي وتعيش في قرية قريبة من مدينة كمبريدج. وفي 1993 «طارت كيدي الى النمسا للقاء فهد وهي في غاية السعادة للتعرف (بواسطة مانبار) على شريك تجاري جديد مما سيعود عليها بأرباح كبيرة. وفي فندق هيلتون في فيينا، طلب منها فهد شراء طنين من مادة ثيونيل كلورايد الاساسية المستعملة في صناعة عدد من المنتوجات المشروعة، فضلاً عن أنها مركب اساسي لصناعة غاز الخردل والغازات المضادة للأعصاب مثل غاز سارين. لكن لم تكن عملية الشراء هذه غير قانونية بشكل من الأشكال».

«وبعد ستة أشهر من البحث والمكالمات الهاتفية والسفر مرتين الى أقاصي الصين، ارسلت كيدي شحنة الثيونيل كلورايد الى ايران. وقرر فهد ان يكلفها بمهمة جديدة تتطلب مزيداً من المسؤولية (...) فطلب منها الحصول على بعض المعدات للمصنع».

لكن ذلك لم يكن سهلاً على سيدة عديمة الخبرة بالمواد الكيماوية ومعدات انتاجها، فاضطرت المرأة «البسيطة» الى الاستعانة بصديق مهندس مطلع على هذه الاشياء سماه توملينسون ألبرت كونستانتين (60 عاماً). ورحب الاخير بالفكرة لأنه في حاجة للمال. الا انه لم يكن قادراً على مساعدة كيدي، كما دلت مكالماته الهاتفية وتقارير رجال الأمن المكلفين بمرافقته. كانت هناك حاجة ماسة لتجنيد أحد اللاعبين الاساسيين مثل كيدي أو كونستانتين. وقرر بادجر أن على توملينسون ان يكسب ثقة احدهما على أمل ان يقدمه الى فهد أو مانبار، فيصبح قادراً على مراقبة سير الصفقة عن كثب. وفعلاً تم اقناع مدير شركة «باري»، حيث يعمل كونستانتين، بتشغيل توملينسون لديه موقتاً والتكتم على هويته الحقيقية، وكي تنجح عملية التجسس لا بد للجاسوس ان ينتحل شخصية اخرى، كانت هذه المرة تحمل اسم هانتلي الذي استعمله توملينسون في عملية نفذها في روسيا سابقاً ولا تزال البطاقات والوثائق الرسمية التي أصدرتها له دوائر الدولة المختلفة بهذا جاهزة للاستعمال مجددا.

وخوفاً من وقوع خطأ ما قد يتسبب بفضيحة، اصرت الجهات الأمنية المسؤولة عليه ان يطلب موافقة وزير الخارجية على المهمة. ويذكر أن «تقديم طلبات الموافقة لـ (الوزير السابق) دوغلاس هيرد، كان عملاً يتطلب وقتاً طويلاً ولغة لا تشوبها شائبة، فضلاً عن عرض منطقي لا ثغرة فيه. الا ان (الوزير مالكوم) ريفكند عرف عنه انه يمهر بتوقيعه اي ورقة يضعها امامه جهاز إم آي 6. لذا قال الموظف المختص: لا نضيع وقتاً طويلاً في كتابته (طلب الموافقة) فريفكند سيوقع بالموافقة حتى على امر اعدامه اذا رجوناه أن يفعل».

وفعلاً نجح بالتقرب من كونستانتين الذي قدمه لكيدي كزميل خبير في شؤون المواد الكيماوية وصناعتها. وقبل ان يزورها في منزلها، وصل تقرير عن ترتيبها اجتماعاً مع فهد في فندق الهيلتون في وسط امستردام حيث سيسلمها وثائق ومخططات جديدة تتعلق بالمصنع. فاستعان ام آي 6 بالجهاز الأمني الهولندي «ب. ف. د» الذي يعتبره في طليعة الاجهزة الاستخباراتية الصديقة. ويؤكد توملينسون أن «إم آي 6 لا يزال يتمتع بنفوذ كبير في أوساط أجهزة الاستخبارات في العالم، ولذا تتراكض الاجهزة الصغيرة لمساعدته حين يستطيعون على أمل أن يرد الجميل في المستقبل»، هكذا رسمت خطة دقيقة لتسجيل محادثة المشبوهين بمساعدة المسؤول الأمني في الفندق، «فعلى عادة فنادق الهيلتون في انحاء العالم، كان مدير أمن الفندق (في امستردام) عميلاً للجهاز الامني المحلي».

وحسب مزاعم توملينسون ذلك فشلت الخطة. لكن كيدي تعرضت لتفتيش دقيق حين حطت طائرتها في مطار ستانستيد، وفق خطة تم الاتفاق عليها مع جمارك المطار مسبقاً. وكي لا ترتاب المشبوهة، فتش الركاب جميعاً الذين وصلوا على متن الطائرة ذاتها. ويصف توملينسون عملية التفتيش «الجيمس بوندية» قائلاً: «فيما فتش احد العناصر امتعتها اليدوية بدقة، محاولاً الهاءها عن طرق التركيز المبالغ فيه على اشيائها الشخصية الحميمة، كان موظف اخر يفتش حقيبتها، وحالما عثر على الوثائق التي اعطاها اياها فهد مررها بخفة عبر آلة تصوير الوثائق التي اخفيت تحت مقعد التفتيش لهذا الغرض ثم اعاد الوثائق الاصلية الى الحقيبة» من دون ان تنتبه السيدة الى ان نسخة من المخططات قد انتهت في ايدي إم آي 6 وأنها ستساعد توملينسون مساعدة كبيرة على توثيق علاقته بها شخصياً بغرض تعطيل المشروع.

حصل تطور مباغت يستحق الاهتمام في سير عملية «بيللهوب». بادجر، المسؤول الأول عن العملية متكفل بالتنسيق مع اجهزة الاستخبارات الاجنبية. وعموماً، فإن مستوى تبادل المعلومات (مع الاجهزة الاجنبية) يتم تحديده وفقاً لقدرة كل منهم على تقديم معلومات استخباراتية مفيدة. وارتبط إم آي 6 على الدوام بعلاقات شراكة طيبة مع وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، خصوصاً ان لدى الأميركيين مصادر ووسائل مذهلة. وكان تعاون بادجر مع «د. س. ت» جيدا ايضاً، غير انه كان عاجزاً تماماً عن اقامة علاقات تعاون سهل مماثل بخصوص العملية مع الموساد. فالاسرائيليون لم يكونوا متعاونين معنا، وكان هذا عبارة عن لغز لم نستطع فهمه، لأننا توقعنا ان يكونوا حريصين على اختراق المحاولات الايرانية للحصول على اسلحة كيماوية، فهذه هي عدوهم اللدود. غلب التوتر على اجتماعاتنا بهم، خصوصاً ان كلا الطرفين لم يكشف الا عن أقل قدر ممكن. وارتاب القسم بأن لدى الموساد خطة مبيتة خفية (حول المصنع الايراني). وتأكدت الشكوك حين عرض بادجر على نظيره الاسرائيلي معلومات جديدة قادمة من وارسو».

لم يستطع إم آي 6 التأكد مما اذا كانت قطع المصنع الذي تنوي ايران شراءه بولوني الاصل، لوجود خلايا للحرس القديم الرافض للتعاون مع الاستخبارات الغربية ضمن المؤسسة الأمنية في ذلك البلد. لكن مع ذلك فقد حصل الجهاز البريطاني من البولونيين على معلومات في غاية الأهمية من جهة اخرى. اذ قدموا لنا تقارير مراقبة حول رجل اعمال بولوني من أصل يهودي معروف بصلاته مع الموساد، تدل على انه اقام علاقات وثيقة مع موظف بولوني رفيع المستوى مسؤول عن البرنامج الكيماوي الدفاعي البولوني (...) وبدا أن رجل الاعمال قد حصل على المخططات (لاقامة المصنع) من هذا الموظف ثم سلمها للموساد، وأن الاستخبارات البولونية تواطأت معهم (...) وهنا انكشف سر عدم تحمس الموساد للحصول على نسخ المخططات التي اعطيانهم اياها. وكما شك بادجر على الدوام، فقد كانت المخططات في حوزتهم سلفاً.

«حضر مانبار عدداً من الاجتماعات السرية مع ضباط الموساد في السفارة الاسرائيلية في باريس. والنظرية الوحيدة التي يمكنها ان تضم قطع اللغز كلها، نصت على ان الموساد، ولدوافع نجهلها، كانت تستعمل مانبار للتعاطي بشكل غير مباشر مع الايرانيين».

ونجح توملينسون في التعرف على جويس كيدي والاقتراب اكثر فأكثر من طهراني فهد. لكن تم نقله قبل ان تتمخض جهوده الحثيثة عن نتيجة ملموسة. ولا يزال مصير المصنع الايراني المزعوم مجهولاً شأنه شأن تفاصيل التعاون الوثيق بين الموساد وطهران لإنجاز هذا المشروع ومشروعات اخرى.