اليابانيون شعب «الساموراي» و«الكاميكازي» مفرطون في التهذيب واستحقوا الحياة بجدارة

TT

كنا في طائرة رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري عائدين من طوكيو الى بيروت يوم الاربعاء عندما فوجئنا بوزير المال فؤاد السنيورة يدخل الى مقصورتنا، ليقدم لنا «بريفينغ» اضافية عن نتائج المحادثات اللبنانية ـ اليابانية.

قال: «الحقيقة ان المسافة بيننا وبين اليابان ليست مسافة عشر ساعات في الطيران (اكثر من 9 آلاف كيلومتر) وانما هي مسافة 50 سنة» مضيفاً ان «الموضوع ليس اننا اتينا الى اليابان لنأخذ ما نريد ونعود فوراً، انما المسألة هي مسألة تواصل ومتابعة لأننا لسنا وحدنا من يتصل باليابان ويريد ان يعزز علاقاته معها». وفي الواقع ان المسافة بيننا وبين اليابان موئل «الساموراي» والمحاربين القدامى بالسيوف، تماماً كالمحاربين القدامى العرب، قد تكون 500 سنة. لأن التقدم العلمي والتكنولوجي والحضاري الذي حققه الشعب الياباني في الاعوام الخمسين الاخيرة اي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم لم يحققه شعب بهذه السرعة على وجه الارض.

والمسألة هنا ليست مسألة عرقية، وتميز الجنس الاصفر الذي ينتمي اليه الشعب الياباني، انما هي مسألة كفاح ومثابرة وجلد هي مثابة القوت اليومي لشعب استحق الحياة بجدارة وجعل من نفسه رقماً صعباً في المعادلة الدولية، ولم يسوِّغ لنفسه ان يكون رقماً هامشياً، او كتلة بشرية تزيد من حجم البشر في العالم بلا فائدة.

اليابانيون، شعب مكافح في الحرب كما كان، وكذلك في السلم. وواقعة جزيرة اوكيناوا خلال الحرب العالمية الثانية كانت اصدق تعبير عن مدى عزيمة اليابانيين وتصميمهم على ان يكونوا امثولة للشعوب في الدفاع عن اراضيها وعن سيادتها وكرامتها في مواجهة اعدائها. ففي هذه الجزيرة قاتل اكثر من 30 الف جندي ياباني حتى الاستشهاد رافضين الاستسلام للقوات الاميركية وحلفائها. واكثر من ذلك فإن المقاومة الصلبة اليابانية في تلك الحرب دفعت قوات الحلفاء آنذاك الى استخدام السلاح الذري ضد اليابان ـ وتحديدا ـ على مدينتي هيروشيما وناغاساكي مما اجبر هذه البلاد على التوقف عن الحرب.

والواقع ان استخدام السلاح الذري ضد اليابان انما كان سببه العمليات الاستشهادية «الكاميكازي» التي شنها اليابانيون للدفاع عن بلادهم، فكان تدميرهم الاسطول الاميركي في ميناء «بيرل هاربور» دافع الاميركيين على تدمير هيروشيما وناغاساكي بالسلاح الذري الذي استعمل للمرة الاولى في التاريخ.

ولكن اليابانيين تعلموا من الماضي وحولوا الهزيمة التي فرضت عليهم انتصاراً، بلا قوة عسكرية محظر عليهم منذ الحرب الكونية الثانية وحتى اليوم ان يمتلكوها، فالحرب عندهم ليست او لم تعد بالسلاح، انما بالتفوق الحضاري التكنولوجي والعلمي، ولذلك حققوا وما زالوا يحققون المزيد من الاكتشافات والاختراعات التي تبهر عالم اليوم.

مدينة طوكيو التي يفوق عدد سكانها الـ 17 مليون نسمة تبدو من خلال الحركة العمرانية الناشطة والفائقة التطور والحداثة كأنها مدينة كونية، والبعض يراها وكأنها مدينة «الكترونية». نظافة شوارعها تبهر الناظرين، لا شيء في شوارعها يشكل نشازاً، بل كل شيء فيها انشئ في مكانه الطبيعي الذي يتناسق مع غيره... شجرة كان او عمود انارة او غرفة هاتف عمومي، او اشارة مرور او زفتاً وخطوط سير ولوحات ارشاد.

واليابانيون، شعب «الساموراي» و«الكاميكازي»، يأسرونك بالتهذيب التاريخي الذي يتحلون به. لا تسمع لأي منهم صوتاً يعلو في وجهك تذمراً او مناداة.

بشوشون دائماً يحنون لك هاماتهم تحية واستقبالاً، فلكأنهم يودون لو يحملونك على اذرعتهم تقديراً لك، فتخال انهم يبالغون ولكن سرعان ما تكتشف انهم فطروا على احترام الغير. هذه الفطرة هي سر من اسرار تقدمهم وتطورهم، لأنها فرضت على الشعوب الاخرى ان تحترمهم. صديقهم صديق، والعدو يمكن ان يتحول صديقاً مفيداً بدل ان يكون لدوداً. وتجربتهم الديمقراطية في الحكم عريقة ولا غبار عليها، لأن مصلحة اليابان وشعبها هي فوق كل اعتبار، وان كانت تلك البلاد تعتمد اقتصاد السوق.

لا يعرف اليابانيون تضييع الوقت، لا جلوس مفرطاً في المقاهي والفنادق، ولا اركيلة وسهر حتى ما بعد منتصف الليل. من العاشرة ينامون ليستيقظوا في الصباح التالي مبكرين الى العمل، اياً تكن احوال الطقس، ففي مطار «ناريتا» حيث هبطت طائرتنا يوم وصولنا واقلعت يوم عودتنا، كان العمال والتقنيون والفنيون يعملون تحت المطر، سواء لتجهيز الطائرات او في ورشة استكمال بناء هذا المطار الذي كان بدأ تشييده منذ بضع سنوات. للوهلة الاولى تبدو طوكيو لك انها مدينة مكتظة، بالسيارات والمارة، ولكن عندما تنطلق في شوارعها لا يعيق سيرك اي شيء لأن اشارات تنظيم السير الضوئية منظمة بدقة متناهية. المسافة من هذا المكان الى ذاك المحددة بنصف ساعة مثلاً هي فعلاً نصف ساعة، لا احد يخالف نظام المرور اطلاقاً. الكل يحترم هذا النظام ولذلك لا تطول المسافات ولا تقصر والجميع يصل الى مقصده في الموعد المحدد.

واحياناً تكتشف ان الطريق التي تسلكها يوجد ثلاث مشابهة او اكثر تحتها او فوقها، ناهيك بانفاق المترو وحافلات النقل. وكل ذلك من اجل تسهيل حركة المرور في هذه المدينة التي لا تشتم في شوارعها رائحة عوادم السيارات ولا تشعر بوجود تلوث يذكر.

وكما يقال، فإن طوكيو من تحت هي مثلها من فوق. لا تتراكم فوق سطوح ابنيتها اي خردة، فيها الابنية الشاهقة وفيها الابنية المنخفضة، ولا شيء يلطخ جدرانها، لا شعارات ولا كتابات، لأن اليابانيين مهذبون انيقون ويتميزون بأناقتهم ونظافتهم عن كل شعوب تلك الارض، سواء على مستوى ملبسهم او على مستوى مدنهم وصناعاتهم وكل شيء يطلون به على العالم.

اليابانيون في اختصار شعب استحق الحياة بجدارة. والعلاقة معه مفيدة والتعلم من تجاربه امر يستحق السعي اليه. اليابان ليست دولة استعمارية او لديها خطط استعمارية، انما هي دولة ترغب بأن يكون لها اصدقاء كثر في العالم وخصوصاً في العالم العربي والاسلامي، فما على عالمنا هذا الا ان يبادر ويستفيد من دون ان يقدم اي تنازلات غالباً ما تشترطها عليه دول غير اليابان معروفة للقاصي والداني.