الصحافة الإلكترونية الهندية تؤسس تقليدا جديدا وتقود حملة ضد الفساد لأول مرة ..بالصوت والصورة

TT

تمسمر ملايين المشاهدين الهنود امام شاشات التلفزيون دون حراك لمتابعة آخر مسلسل لفضائح الفساد التي تحولت الى معركة سياسية حامية الوطيس عبر موجات الاثير، ودفعت بالهند الى حقبة جديدة من عصر الصحافة الجريئة عبر الانترنت. فقد اظهرت اشرطة فيديو صورت سرا شخصيات سياسية رفيعة، وضباطا في الجيش، لحظة تسلمهم باليد رشى من صحافيين، يشتغلون في الصحافة عبر الانترنت، تخفوا على هيئة تجار اسلحة.

وتسببت تلك اللقطات القذرة في استقالة وزير الدفاع، ورئيس الحزب الحاكم، الى جانب اربعة من كبار ضباط في الجيش. ورغم ان قلة ترى ان هذه الفضيحة ستقود الى سقوط الائتلاف الحاكم الذي يبلغ 17 شهرا من العمر، اضر الضجيج الذي رافقها بسمعة رئيس الوزراء الهندي آتال بيهاري فاجبايي، كما عطلت تنفيذ مبادرة حكومية اقتصادية مهمة، فضلا عن افساحها المجال امام المعارضة لشن حملة شعواء تشكك في مدى اخلاقية الحكومة الراهنة.

ويعلق في هذا الصدد الانثربولوجي شيف فيسفاناثان قائلا: «لقد حل التلفزيون محل قاعة المحكمة هذه المرة، اما الناس فانهم نطقوا بالحكم بعد ان شاهدوا بأم اعينهم تسلم تلك الشخصيات السياسية الرشى. لقد كان تأثير تلك اللقطات فضائحيا للغاية، وشعر الناس بانهم تعرضوا لاهانة شديدة».

واضاف: «ان هذا يعد اسلوبا جديدا بالنسبة للصحافة الهندية، كما لمس الناس السرعة التي تحدث بها الامور لاول مرة، اذ ان اللقطات افضت مباشرة الى تقديم هؤلاء السياسيين استقالتهم». وكان الكشف عن مثل هذه الفضيحة وما افضت اليه من استقالات امرا لا يتصور قبل 11 عاما، عندما كانت القنوات المستقلة غير مرخص بها، كما كانت تخضع كل الاخبار للرقابة من جانب وزير المعلومات والبث.

ويعبر رئيس تحرير مجلة «الهند اليوم» الاسبوعية آرون بيوري عن سروره واصفا ما جرى بانه «لحظة يحق للصحافة الهندية ان تفخر بها، اذ ان هدف الصحافة الاساسي اشبه بحمل مرآة تمكن المجتمع من النظر الى نفسه من خلالها، مهما تكن الصورة التي يراها قبيحة، وهذا ما اقدم عليه الفريق الصحافي لموقع «تهلكا دوت كوم» الصحفي».

ورغم ان هذا الموقع لا يتجاوز عمره العامين، اصبح اسمه يتردد في كل بيت هندي. ولو لجأت الحكومة الهندية الى رفع قضية ضد صحافيي الموقع على اعتبار تحايلهم على المسؤولين عند تصويرهم تلك اللقطات، من المستبعد ان تدينهم اي محكمة بارتكاب جرم. علاوة على ذلك، فان هؤلاء الصحافيين باتوا يتمتعون بشعبية كاسحة بين عامة الهنود الغاضبين من الفساد المستشري بين السياسيين الهنود، والشاعرين بالرضى لتطاير بعض الرؤوس وتدحرجها من مواقعها المرتفعة.

اما عن نجاح هذا الموقع فيوضح مديره التنفيذي تارون تجبال ان وراءه الجمع بين الصحافة والاستثمار ويقول: «نحن من بين اوائل الصحافيين الذين تمكنوا من جمع الاموال عبر السوق المفتوح... فنحن شركة يملكها صحافيون. وهذا عملنا الذي نؤديه، ونعمل حاليا على اخبار اخرى، ولا نكترث حقا بما يتمخض عن عملنا من نتائج سياسية». وفجرت اللقطات المصورة حملة شعواء من تبادل الاتهامات بين الخصمين التقليديين المتمثلين في حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الذي يقود الائتلاف الحكومي الحاكم ومعارضه الرئيسي حزب المؤتمر. ومع اقتراب اجراء الانتخابات في خمس ولايات هندية، شن حزب المؤتمر هجوما شديدا على حزب فاجبايي واصفا اياه «باللص» و«المحتال» ودعاه الى تقديم استقالته. ومع تصاعد حرارة التراشقات الكلامية، انهيت الدورة البرلمانية قبل ثلاثة اسابيع من انتهاء مدتها وبعد تسعة ايام من الفوضى التي غمرت قاعات البرلمان وغرفه. ورغم مضي قرابة الاسبوعين على نشر اللقطات التي تصور تلك الفضيحة لا تزال اخبارها تحتل الصفحات الاولى للجرائد الهندية. وكانت الشركة التي تدير الموقع قد انفقت 40 الف دولار على طول الاشهر الثمانية الماضية في التحقيق والحصول على المعلومات، وهو مبلغ يعد ضخما بالمعايير الهندية. ويعرب تاجبال عن ان لا نية للشركة في ملاحقة اكثر من قضية واحدة في العام. اما الاقتصادي سوامناثان انكلساريا اير فيشير الى ان تعديل الحكومة لقوانينها فتح الباب امام «الرأسماليين المغامرين» القادرين على تمويل مشاريع مثل موقع تاجبال ويقول: «في الايام الماضية كان بمقدور اي شخص العمل في مجال الصحافة المطبوعة، في المقابل لم يكن متاحا للجميع العمل في مجال الاعلام الالكتروني. ولكن بعد تحرير الاقتصاد في الهند، بات بمقدور (تاجبال) توفير الاموال الكافية لتدشين شركة تهليكا وتمويل عمليات الفضح المكلفة».

وكان كشف الصحف الهندية في الماضي عن فضائح الفساد السياسي يقود دائما الى موتها داخل المحاكم الهندية، بسبب النظام القضائي الهش العاجز عن التصدي لحكومة الحزب الواحد القوية في نيودلهي. وفي عام 1987 عندما فاضت الصحف الهندية باتهاماتها لرئيس الوزراء آنذاك راجيف غاندي لقبوله 14مليون دولار بناء على اتفاق سري من وراء صفقة سلاح، حمل المحققون الهنود القضية الى اروقة المحاكم حيث بقيت دون حسم.

وفي عام 1971 قيل ان احد موظفي المخابرات الهندية واسمه ناجاروالا قلد صوت رئيسة الوزراء الهندية آنديرا غاندي على الهاتف، بعضهم يقول بناء على طلب منها، طالبا من المصرف المركزي الهندي منحها 133 الف دولار. غير ان ناجاروالا وشرطي آخر كان يحقق في القضية عثر عليهما مقتولين وبقيت هذه القضية ايضا دون حسم.

وفي عام 1996 وجهت اتهامات لرئيس الوزراء السابق ناراسيما راو وعدد من المسؤولين الكبار بتسلمهم ملايين الدولارات من احد الوسطاء، ونشر اخبار هذه الفضيحة على صفحات الجرائد الهندية. غير ان شيئا من هذا القبيل لا يمكن اثباته في المحاكم، فقد برئت ساحة معظم المسؤولين في هذه القضية.

وكان مصدر قوة الحكومة عند تعرضها لتلك القضايا الثلاث وجود حزب واحد في السلطة وهو حزب المؤتمر. غير ان الاحوال تبدلت في اواخر التسعينات ببروز الحكومات الائتلافية في الهند، التي باتت معها احزاب كبرى مثل حزب المؤتمر تعد احزابا ضعيفة واكثر هشاشة عند تفجر فضائح سياسية. وحسب بعض المحللين، فان زعماء الطوائف الدنيا اقل مهارة من حزب المؤتمر عند بروز الفضائح، ويعلق فيسفاناثان على ذلك بقوله: «ان اشخاصا مثل تجبال يدركون خطورة الصورة، وهذه اول مرة تتوفر فيها معلومات حقيقية لعامة الهنود بدل الاشاعات المعهودة».

* خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»