الصرب يؤيدون محاكمة ميلوشيفيتش ليس لجرائمه في كوسوفو.. بل لحكمه الاستبدادي لهم

TT

وراء الاسوار التي تحيط بالفيلا الحكومية رقم 11 بشارع اوزيكا، يجلس سلوبودان ميلوشيفيتش وهو يحتضن حفيده الصغير، ويدخن السيجار «مونتيكريستو» ويرشف كؤوس الويسكي والبراندي من وقت لآخر. ويخرج في بعض الايام لتحية مؤيديه الذين يقيمون «حرسا شعبيا» على بوابته الامامية.

وقد انتاب قادة الحزب الاشتراكي قلق شديد على صحته العقلية بعد ثورة الخامس من اكتوبر (تشرين الاول) التي اطاحت حكمه الذي استمر 13 عاما وهو ما حدا بهم لتعيين حوالي العشرين من اعضاء الحزب للتسرية عنه بالمحادثات الهاتفية.

ولكن حالة الاكتئاب التي ألمت به يقال انها انقشعت الان. ففي بداية هذا الشهر ذهب الى رئاسة الحزب الاشتراكي لرفع المعنويات الهابطة لاتباعه بتبشيرهم بالنصر القريب.

ولكن يبدو ان ميلوشيفيتش لن ينعم بحريته طويلا، فاذا كان قد عرف «بسفاح البلقان» الملطخ اليدين بالدماء، ثم بصانع السلام الدمث ابان محادثات دايتون عام 1995 فقد آن له ان يلعب دورا جديدا، هو دور المتهم في محاكمة ذات ابعاد عالمية. فالمسؤولون الصرب يقولون ان الرئيس المخلوع سيتم اعتقاله خلال ايام او اسابيع، بتهم تتصل باساءة استخدام السلطة. ولكن السؤال هو: هل سيتم هذا الاعتقال بالسرعة الكافية لتفادي تدهور خطير للعلاقات بين الولايات المتحدة والديمقراطية اليوغسلافية الناشئة؟

الضغوط الاميركية 31 مارس (اذار) هو الموعد النهائي بالنسبة «للحكومة الديمقراطية» ببلغراد، للتعاون مع محامي الادعاء في محكمة جرائم الحرب التابعين للامم المتحدة، او تتعرض لقطع المعونات الاميركية.

وابلغ المسؤولون الاميركيون قادة يوغوسلافيا الجدد بان اعتقال ميلوشيفيتش، الذي وجهت له محكمة جرائم الحرب بلاهاي (هولندا) تهما بارتكاب الفظائـع في اقليم كوسوفو يعد امرا ضروريا لاقناع اعضاء الكونجرس بكابيتول هيل بجدوى المساعدات الاميركية.

ويصر المسؤولون الحكوميون اليوغوسلاف على ان العدالة لا يمكن استعجالها. وقال رئيس الوزراء الصربي زوران دجيجيتش بالنسبة لاولئك الذين ينظرون من الخارج القضية واضحة: مليوشيفتش مجرم حرب، ولكن هذا تقرير سياسي، اما بالنسبة للاجراءات القانونية، فأنت تحتاج الى الادلة والبينات، وهذه ليست سهلة كتلك».

المساعدات المالية الاميركية المباشرة وصلت هذا العام الى 100 مليون دولار، صرف منها حتى الان حوالي النصف. ولكن الذي يهم بلغراد اكثر هو تأييد الولايات المتحدة ودعمها لاقناع المؤسسات المالية العالمية لاعادة جدولة ديونها الهائلة. فديون يوغوسلافيا تصل الى 12.5 مليار دولار.

واكدت السلطات اليوغوسلافية، مؤخراً، انها ستتعاون مع محكمة لاهاي، حتى اذا لم تستطع وضع ميلوشيفيتش وراء القضبان. ويوم الاثنين الماضي قدمت بلغراد بالفعل على اعتقال سبعة من معاوني ميلوشيفيتش بتهم تتعلق باساءة استخدام السلطة.

واعلنت كارلا ديل بونتي، المدعية في المحكمة ان «التعاون مع بلغراد بدأ فعلاً». ويمكن ان يستخدم تصريح ديل بونتي من قبل الرئيس الاميركي جورج بوش كغطاء سياسي لتأكيد تعاون بلغراد حتى اذا لم تعتقل ميلوشيفيتش.. وهذا هو بالضبط ما يحتاجه الكونجرس للموافقة على استمرار العون.

ولكن اعضاء الكونجرس يقولون انهم يريدون تقدما حقيقيا من جانب بلغراد. واذا لم يحدث ذلك فان الكثيرين من اعضاء المجلس الاقوياء سيقاومون المعونات ليوغوسلافيا، ليس من قبل اميركا وحدها، بل كذلك من قبل المؤسسات المالية الاخرى.

ويقول اليوغوسلافيون انفسهم انهم واقعون تحت مطرقة الدعوات الاجنبية للعدالة الناجزة، وسندان تعطشهم للالتزام الصارم بجانب القانون بعد اكثر من عقد من الفوضى المؤسسية. فهم لا يرغبون في اعتقال ميلوشيفيتش بدون لائحة من التهم القوية، وهو امر لا يسهل العثور عليه. فالرجل كان يتفادى التوقيع على اية وثائق تدينه، كما ان اتباعه قاموا بتدمير كل الوثائق خلال الشهور الثلاثة الاخيرة لسيطرتهم على السلطة بعد الثورة.

ويأمل المحققون في مساعدة بعض العالمين ببواطن الامور.. وقال دجيجيتش ان المحققين يتوقعون ان يقوم قائد الشرطة الصربية رادي ماركوفيتش، المعتقل حاليا، بتقديم ادلة ومعلومات ضد رئيسه السابق، خاصة عندما يتبين انه يواجه حكما بالسجن المؤبد في احد السجون الصربية المليئة بأولئك الذين وضعهم هو نفسه هناك.

ويقول رئيس الوزراء الصربي ايضا ان السلطات غالبا ما توجه لميلوشيفيتش تهما تتعلق باساءة استخدام السلطة ورشوة المشرعين لينصبوه رئيسا. واضاف: «صار ميلوشيفيتش رئيسا بمساعدة هذه الاصوات المشتراة، ونحن نملك الشهود والادلة المادية».

ومع ذلك فان الكثيرين ينتقدون الانذار الاميركي، ويعتقدون انه سيؤدي الى نتائج عكسية. ويقولون ان هذا الموقف يضخم اهمية ميلوشيفيتش، بينما يصور حكام الصرب الجدد على انهم مجرد دمى للغرب، وحتى اولئك الذين عانوا من مظالم النظام اصبحوا اكثر صبرا من واشنطن.

العنف والتآكل في 11 ابريل (نيسان) عام 1999 كانت برانكا بريا تتمشى مع صديقها سلافكو سوروفيجا عندما هاجمهما مسلحون واصيبا اصابات قاتلة، ولكن القاتل وقف فوقهما وافرغ 17 رصاصة في رأس سوروفيجا، الكاتب والصحافي الذي اغضب ميلوشيفيتش وزوجته ميرا ماركوفيتش. وقالت بريا التي نجت بأعجوبة «المسؤولية تقع من دون ريب على ميرا ماركوفيتش وسلوبودان ميلوشيفيتش وانا اتمنى ان يتم اعتقالهما بأسرع فرصة... ولكنني اتفهم بصورة كاملة موقف الحكومة الصربية».

وتقول الحكومة ان المحققين على وشك الاعلان عن عدة تهم تتعلق باغتيالات سياسية، بما في ذلك اغتيال سوروفيجيا، وان زوجة ميلوشيفيتش يمكن ان تقدم هي ايضا للمحاكمة.

وبينما تهتم واشنطن بجرائم الحرب، فان الصرب حانقون على ميلوشيفيتش للنتائج الوخيمة لحكمه الدكتاتوري.. هم غاضبون للشوارع المليئة بالمطبات، والبنايات المتهالكة والمياه الملوثة واكوام القمامة المتراكمة. يقول العمدة سلافوليوب ماتيتش: «نحن لا نزال رهائن ميلوشيفيتش.. فجريمته الكبرى هي الديكتاتورية التي مارسها في وطنه».

* خدمة يو.اس توداي ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»