غازي سليمان بعد 76 يوما في السجن بالخرطوم:الترابي قرأ المستقبل فانضم للمعارضة

المعارض السوداني لـ«الشرق الأوسط»: جئت إلى العاصمة البريطانية للاستشفاء من آثار الاعتقال والضرب

TT

لغازي سليمان المحامي، أحد رموز المعارضة الداخلية السودانية، رؤيته الخاصة في تحليل المواقف السياسية المتباينة التي تزدحم بها ساحة السودان السياسية، بدءاً من عودة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة المعارض وتداعياتها ونهاية باعتقال د. حسن الترابي والطلاق البائن بينه وبين جناح الرئيس عمر البشير او المؤتمر الوطني.

«الشرق الأوسط» اغتنمت فرصة وجوده في لندن مستشفياً من آثار الضرب وسوء المعاملة الذي تعرض له خلال اعتقاله لمدة 76 يوماً حسب قوله وحاورته. وقد كشف غازي لـ«الشرق الأوسط» عن الدوافع الحقيقية لاعتقاله وفي المقابل عن منظومة من المواقف المتضاربة للحكومة السودانية.

الاعتقال والتعذيب.. لماذا؟

* الى ماذا ترجع دوافع الحكومة من تطويل مدة اعتقالك لـ76 يوماً بسبب دفاعك عن اعتقال مجموعة من السياسيين الذين اجتمعوا بالمسؤول الأميركي في سفارة الخرطوم؟

ـ ليس لدفاعي عن زملائي من السياسيين صلة باعتقالي من وجهة نظري، وان كانت هناك صلة فهي لا تتعدى استغلال الواقعة لتنفيذ او تفجير سيناريوهات كثيرة وراء الاعتقال.

أول السيناريوهات من وجهة نظري يتجه لجهة احراج الصادق المهدي العائد سياسياً، لأن المهدي قد عاد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2000 بمكسبين سياسيين اولهما شخصي والآخر موضوعي، أما الشخصي فهو حصوله على ضمانات من دولتي المبادرة المصرية ـ الليبية المشتركة بعدم التعرض له ولقيادات حزبه بأي نوع من المضايقات بما في ذلك الاعتقال، وأما الموضوعي فيكمن في تمكينه وحزبه من حرية الحركة بما في ذلك تنظيم الحزب وممارسة النشاط السياسي، ومن هنا جاء اعتقالي كرسالة مفادها تعجيزه عن عمل شيء للدفاع عني او عن معارضين آخرين واظهاره للشارع السياسي في موقف المتفرج وبالتالي امتصاص حركة تأثيره تدريجياً ليظهر بعد حين كما لو أن عودته لن تغير من الواقع شيئاً.

السيناريو الثاني يتجه الى تحجيم حركة التعبئة السياسية ضد حزب المؤتمر الوطني الحاكم بعد ان اتسعت رقعة المعارضة بانضمام المؤتمر الشعبي بقيادة د. حسن الترابي اليها، فجاء اعتقالي للتفرغ لقمع المؤتمر الشعبي في محاولة لعزله عن حركة المعارضة العامة. وهناك سيناريو ثالث يجمع بين الكيد السياسي ومحاولة اختفاء الشرعية على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، وأشير هنا الى اني كنت قد رفعت دعوى قضائية مع عشرين من زملائي المحامين حول عدم شرعية ودستورية تلك الانتخابات وبمنطق دستور الانقاذ وأشرت في الدعوى الى ان المادة 90 ـ 2 تنص على ضرورة اجراء الانتخابات في وجود مجلس وطني (برلمان) وليس في غيابه وان رئيس الجمهورية غير مؤهل بموجب الدستور لإصدار أي تشريعات مؤقتة لاجراء الانتخابات العامة او الرئاسية في غياب المجلس الوطني ومن ثم يصبح اجراء تلك الانتخابات باطلاً بموجب الدستور.

معارضة الترابي.. اختلاف التقييم

* يكثر الحديث في أروقة المعارضة ومعه التقييم حول توقيع المؤتمر الشعبي لمذكرة تفاهم مع الحركة الشعبية بزعامة قرنق رغم ان الخطوة قد قادت لاعتقاله وهناك من يرى ان هذه المواقف لا تغفر له مواقفه السابقة كونه عراب النظام.. هل ترى ان د. الترابي وباعتقاله اصبح وجهاً مقبولاً للمعارضة وهل تراه رقماً أساسياً في أي حركة تغيير قادمة؟

ـ دعني بداية، وليس من باب الدفاع عن الترابي.. أقول ان حركة «الانقاذ» نفسها قد جاءت في 30 يونيو (حزيران) 1989 لتتويج لحالة الفشل السياسي منذ الاستقلال ومنذ ان عجز آباء الاستقلال في وضع دستور يعبر عن التعدد والتنوع العرقي والثقافي والديني بالسودان، وبالتالي فحسن الترابي وجب ان لا يكون الشماعة الوحيدة التي يمكن ان نعلق عليها احباطاتنا وفشلنا، فالرجل قد حاول فرض خطاب سياسي معين ولكنه أفاق على فشله، فانتقل بمواقفه نحو الاتجاه الصحيح وقد استمعت اليه في نقابة المحامين في ندوة سابقة لاعتقاله فأوضح مواقفه بلا لبس داعياً للحريات وقد توج ذلك بتوقيع مذكرة التفاهم مع جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، وبالتالي فاني أراه وجهاً مقبولاً في أي حركة تغيير قادمة ورقماً مقبولاً فيها لأن مفردات خطابه الجديد تعترف بضرورة التحرك نحو سودان جديد بكل استحقاقات ذلك الهدف، وكل ذلك لا يلغي بالطبع حقائق مشاركته في سنوات الانقاذ التي اعتبرها مثل بئر السايفون في مقابل اعتباري للتجارب السياسية السابقة لها مثل «السبتك تانك» الذي يسبق بئر السايفون هندسياً.

* لا تخلو طروحات السودان الجديد من تناقض.. فهي تتحدث عن سودان جديد تقوده وجوه قديمة تقول بنفسها انها امتداد لحالة الفشل الممتدة منذ الاسقلال، بمعنى ان رهان القوى الحديثة والى الان يتحدث مشغوفاً او مشغولاً بتحالف الترابي ـ قرنق وعلى ذلك قس.. ما رأيك؟

ـ أحسب ان على القوى الحديثة ان تفهم حقيقة سياسية وأولية هامة وهي اننا لا يمكن ان نبني سوداناً جديداً بمفهوم استئصال الآخر وانما بالاعتراف به ودفعه دفعاً لتغيير خطابه السياسي ليتماشى مع مبادئ السودان الجديد. وتقدير ان ما يسميه البعض الوجوه القديمة قد اتجهت جميعها للمناورة وتكييف نفسها مع الزخم المتنامي في اوساط القوى الحديثة وعمادها منظمات المجتمع المدني واقرأ هنا ما شئت من تقارب الترابي ـ قرنق وقبله الميرغني ورفض حزب الأمة المشاركة في حكومة المؤتمر الوطني.

المستقبل.. سيناريوهات التغيير

* عودة لمأزق الحكم في السودان.. هناك من يقول بوجود اكثر من تيار داخل جناح الرئيس البشير تجاه عمليات الوفاق، وهناك من يقول ان الانفراج الاقتصادي والسياسي على صعيد العلاقات الدولية قد مكنا للنظام بدرجة تدفعه في اتجاه معاكس لحركة الوفاق، فيما تقلل كل تلك الحقائق من احتمالات سقوطه.. ما رأيك؟

ـ ليست هناك تيارات بالمعنى الصحيح لمثل هذا المصطلح. ولكن هناك مواقف متباينة داخل جناح البشير، فهناك فئة تؤمن بتوسيع المشاركة من قناعاتها باستحالة الاستمرار بهذه الطريقة، وهذه الفئة لا تخشى توسيع المشاركة لأنها تثق وفق تقديرها انها لم تتورط في أية تجاوزات.. وذلك في مقابل فئة من المتورطين والغارقين الى الأذنين في تجاوزات وتريد هذه الفئة اللعب بورقة الوفاق لشراء الوقت فقط فيما تريد أصلاً ترسيخ مفهوم الدولة البوليسية، وتقديري انها تحاول استنساخ تجارب النظام العراقي بمعنى الابقاء على المفهوم العقائدي كلافتة فقط في مقابل ممارسة القمع السياسي وتوسيعه ليطال الأسر والأقارب وليس مجرد الناشطين السياسيين، ومعه سياسة الترغيب ما أمكن. أما حول التقليل من احتمالات سقوط النظام بسبب ما سميته الانفراج السياسي والاقتصادي، فدعني أقول ان سقوط النظام لا يعني سقوط شخصيات بقدر ما يعني سقوط برنامج الانقاذ الماثل الآن والذي يهمنا هنا هو سقوط هذا البرنامج الذي برهن على قصوره وفشله في تحقيق الوحدة الوطنية، ويبدو لي ان الخيار أمامنا حكومة ومعارضة قد أصبح ضيقاً فاما قبول السودان الجديد بتنوعه والفصل الحاسم بين الدين والسياسة وإما نهاية السودان الوطن من الخريطة الدولية وتحوله الى مجموعات عرقية جديدة يكون نصيبنا منها كمسلمين دويلة صغيرة في الصحراء لا حول لها ولا قوة وهذا ما تنبه له الترابي ودعني اكشف لك، انه قد تنبه لذلك من قبل قرارات البشير ضده في 12 ديسمبر (كانون الأول) 1999.

عودة للاعتقال والضرب..

* عودة للاعتقال.. لماذا سمحوا لك بالسفر.. وتقول انهم قد عذبوك؟

ـ رفضوا في البداية ولكن وجود المقرر الخاص لحقوق الانسان بالخرطوم دفعهم مكرهين لاعادة النظر في القرار.

* هل اطلعته على ما حدث لك؟

ـ نعم.. ومن قبل وصوله للسودان، وسأطلع هنا في لندن منظمة العفو الدولية.

* كيف كانت المعاملة في السجن؟

ـ سيئة، فالوجبات لم تتعد الوجبتين، الأولى في السابعة صباحاً وهي عبارة عن صحن من الفول والثانية في المساء وهي عبارة عن بطاطس او قرع.

* كيف ضربت.. وكيف تعاملوا معك؟

ـ قادوني ليلة 9 ديسمبر الى منزل تابع لجهاز الأمن قرب مقابر فاروق وفوجئت بأناس يوسعوني ضرباً على رأسي حتى نزفت من انفي وفمي وأذني ودخلت في غيبوبة لأكثر من 12 يوماً وحاولت السلطات خلالها علاجي من مرضي السكر والضغط ولكنها لم تحاول علاجي من آثار الضرب، ولذلك فأنا هنا للعلاج.

* ألم يعتذر لك أحد أو مسؤول؟

ـ لا.. ولست في حاجة لمثل ذلك الاعتذار.