خصوم مالك «التلجراف» في الخلاف على أخبار الانتفاضة: الإعلام البريطاني غير منحاز إلى إسرائيل

اللورد غيلمور والكاتب دارليمبل لـ«الشرق الأوسط» على العرب أن يسمعوا صوتهم بدلا من ترك الساحة خالية

TT

أكد الوزير البريطاني السابق اللورد غيلمور لـ«الشرق الأوسط» ان الاعلام البريطاني «لا يزال مميزا عن الاعلام الأميركي المنحاز بصورة واضحة لاسرائيل». ومن جهته نفى وليام دارليمبل، صاحب كتاب «من الجبال المقدسة» الذي يتناول اضطهاد المسيحيين والعبث بمقدساتهم في فلسطين على أيدي السلطات الاسرائيلية، ان تكون هناك «مؤامرة بريطانية ضد العرب». وقال الاعلام البريطاني لا يأتمر بأمر اليهود كما يتخيل البعض.

ودعا العرب الى بذل ما بوسعهم لايضاح الحقائق في بريطانيا بدلاً من ترك الساحة خالية لأصدقاء اسرائيل وتوجيه اللوم للجميع بحجة انهم متحيزون ضدهم. جاء ذلك في سياق حوارين اجرتهما «الشرق الأوسط» مع وزير الدفاع ونائب رئيس الدبلوماسية البريطانية السابق، بهدف تسليط الضوء على «المعركة» التي تدور بينهما وعدد من المثقفين البريطانيين من جهة وكونراد بلاك صاحب صحيفتي «التلجراف» و«صنداي تلجراف» ومجلة «سبيكتاتور» البريطانية من جهة اخرى، حول تغطية الأخبار الفلسطينية.

وتمثلت الجولة الاخيرة من هذه «المعركة» في مقال واسع حول ردود لورد غيلمور والكتاب الآخرين نشرته المجلة البريطانية اخيرا ووقعه رئيس التحرير بوريس جونسون، الذي تجري في عروقه دماء تركية اذ كان جده من ابرز مستشاري السلطان عبد الحميد قبل هجرة العائلة الى بريطانيا اوائل القرن.

وكانت الأزمة قد بدأت قبل اقل من شهر (راجع «الشرق الأوسط» 19/3/2001) حين وجه كونراد، الكندي الأصل، انتقادات شديدة، لليوناني الاصل تاكي ثيودوراكوبولس لأنه هاجم اسرائيل في عموده الاسبوعي في «سبيكتاتور». ولما دافع لورد غيلمور والكتاب المعروفون، آ. ن ويلسون ووليام دارليمبل وبيرز بول ريد، وريتشارد غلاس عن حق تاكي بالتعبير عن رأيه، رد صاحب «التلجراف» بعنف ووزع اتهامات العداء للسامية او التحيز ضد اسرائيل، على صحف ومؤسسات اعلامية بريطانية. ولا يزال الأخذ والرد مستمراً، خصوصا ان «سبيكتاتور» قررت اخيرا الامتناع عن نشر الرسائل المتعلقة بالمسألة. وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر وثيقة ان معظم الرسائل التي وردت الى المجلة كانت تندد بسلوك بلاك وموقفه المتحيز لاسرائيل. كما اكدت المصادر ان بعض اصدقاء بلاك من كتاب «سبيكتاتور» الذين لا يقلون تشدداً عنه، عاتبون عليه بسبب ضحالة مداخلاته. ولعل هذا الانطباع يفسر اللهجة الاعتذارية، نسبياً، لمقال رئيس تحرير «سبيكتاتور» الأخير الذي يغلب عليه الاضطراب بسبب سعيه للجمع بين المتناقضات: الاعتراف بمعاناة الفلسطينيين وبحق اسرائيل في التوسع على انقاض حياتهم في آن واحد! تكمن اهمية الخلاف الأساسية في انه يعيد الى الواجهة مسألة نزاهة الاعلام البريطاني وحريته فضلاً عن اسلوب تعاطيه مع القضايا العربية. فهؤلاء المثقفون قرروا خوض المعركة مع بلاك لأنه حاول تكميم الأصوات الناقدة لاسرائيل خوفا من ان يصبح الاعلام البريطاني، كنظيره الاميركي، مؤيداً بشكل اعمى لاسرائيل.

وهذه الرغبة طبيعية في رأي لورد غيلمور لأن بلاك «متغطرس كزوجته المتشددة (...) وهو أميركي الأصل من اقصى اليمين (لذلك تراه) يحاول ان يقسر الناس على الانصياع لاسرائيل كما يحدث في اميركا. هذا (الانصياع) أمر شائع هناك لكن لا يمكن ان يسمح به هنا».

ومحاولات كونراد أثرت سلباً على المجلة التي «انحدرت في عهده الى حد لم تعهده من قبل» في رأي اللورد الذي كان رئيس تحرير «سبيكتاتور» بين عامي (54 و59 وصاحبها بين 54 و67). فالسياسي المتقاعد الذي ترقى صداقاته مع العرب الى حوالي اربعين عاماً وذكر انه تعرف على الرئيس عرفات قبيل معركة الكرامة في احدى قواعد الفدائيين في الأردن، اعترف بأنه لم يتابع المجلة «منذ زمن طويل (...) لا اعتقد اني سأهتم بها بعد الانتهاء من موضوع الرسائل هذه، لأن بلاك ورئيس تحريرها قد تجاوزوا الحدود المقبولة في السلوك الصحافي».

أما دارليمبل، فيرى ان «لا مناص من خوض هذه المعركة (لأن) كونراد بلاك يريد ان يفرض علينا في بريطانيا الشعار السائد في اميركا «أنصر اسرائيل ظالمة او مظلمومة». وقد علمت «الشرق الأوسط» ان احد ابرز المعلقين على القضية الفلسطينية في صحيفة «التلجراف»، وله صداقات شخصية وثيقة مع فلسطينيين، مضطر الى محاباة صاحب الصحيفة والدفاع عن اسرائيل، مع انه رأى الحقائق كلها على الأرض.

وقد نقل عنه صديق قوله ان المغامرة بمعارضة بلاك ستؤدي الى تدمير مستقبله المهني في الصحيفة. و«الرقابة» التي يتهم بلاك بممارستها مخالفة للتقاليد الاعلامية البريطانية التي تفسح المجال للجميع ان يعبروا عن آرائهم بحرية، حسب دارليمبل. ولدى تذكيره بالانتقادات التي وجهها صحافيون بريطانيون على صفحات «الشرق الأوسط» قبل اشهر لهيئة الاذاعة البريطانية بسبب بثها اخباراً متحيزة لاسرائيل، قال «الهيئة لا تلتزم خطاً ثابتاً بخصوص الاخبار الفلسطينية ونوعية التغطية تتبع أساساً الصحافي ذاته، فهناك اشخاص متعاطفون مع اسرائيل وهناك من يعارضونها».

وهل يعني ذلك ان بلاك يمثل حالة منفردة في الاعلام البريطاني الذي لا يتجنى عموماً على الفلسطينيين؟ تردد لورد غيلمور في تأكيد هذا «الانصاف» بصورة حازمة، لكنه وافق على وجود شبه بين بلاك و«ماكسويل (صاحب صحف ميرور الصهيوني الذي مات غرقاً في ظروف غامضة بعدما اختلس اموال صناديق موظفيه) حين يتعلق الامر بتغطية الاخبار الفلسطينية». واضاف: «لا اعرف الكثيرين من اصحاب الصحف البريطانية الذين يدافعون بحماس عن الصهيونية مع انهم يجهلون القضية جهلاً تاماً (...) التغطية في «الغارديان» و«الاندبندنت» و«الفايننشال تايمز» و«الإيفننج ستاندارد» تكون عادة منصفة عموماً». ولم يفته ان يشدد على ان «التغطية في صحف بلاك و(روبرت) ميردوخ (الاسترالي الذي يملك صحف تايمز وصن وتلفزيون سكاي وغيرها) سيئة لكن حتى في هذه الصحف تعثر احياناً على تقارير ميدانية معقولة (...) وهناك من يحاول ان يكمم الأفواه. ومع ان اسلوب نقل الاخبار الفلسطينية إجمالاً ليس جيدا جداً فهو افضل بكثير مما في الولايات المتحدة».

وأيد دارليمبل معظم ما جاء على لسان لورد غيلمور، مؤكداً ان الحديث عن موقف موحد في الاعلام البريطاني حيال فلسطين او غيرها امر غير وارد، خصوصاً ان هناك تعددية في الآراء التي تنشر في الصحيفة نفسها ناهيك من الفروق بين مطبوعة واخرى.

وساق أمثلة على ذلك من صحيفة «التايمز» ومن صحيفتي «التلجراف» ذاتهما، حيث «تكون التقارير الميدانية من فلسطين عموماً محايدة على عكس التحليلات المبالغة في اجحافها بحق الفلسطينيين». وهذه التعددية تدل في رأيه على عدم «وجود مؤامرة ضد العرب في بريطانيا كما يحلو للبعض ان يتخيلوا واليهود لا يسيطرون على الاعلام البريطاني (...) كونراد بلاك في الحقيقة كاثوليكي حتى العظم (زوجته باربارة ايميل يهودية) وماكسويل كان اليهودي الوحيد الذي امتلك صحفاً بريطانية». ثم يجب ان لا ننسى ان اليهود انفسهم ليسوا راضين كل الرضى عن سلوك اسرائيل ولا يؤيدونها جميعاً ظالمة أو مظلومة».

كل ما في الأمر حسب الكاتب ان «اليهود البريطانيين ينشطون في شرح قضاياهم والدفاع عن اسرائيل، وهذا من حقهم، بينما يكاد العرب يغيبون تماما عن الساحة (...) ولنكن صريحين، لو ان كابو (مجلس تعزيز التفاهم العربي ـ البريطاني) منظمة تعمل على خدمة اليهود لا العرب، لكانت تعيش في بحبوحة. لكن الغريب ان العرب يتركون مؤسسة بهذا الاخلاص والتفاني في شرح قضاياهم تعيش دون خط الفقر». وبسبب الغياب العربي، قلّما يعرف بريطاني عادي شيئاً عن القضايا العربية، اذ يعتقد دارليمبل ان «الغالبية العظمى يجهلون الحقائق الأساسية البسيطة عن دول عربية كثيرة، ولا أبالغ اذا قدرت ان نسبة الذين يدركون تفاصيل الاحداث في فلسطين لا يتجاوز 5 في المائة من البريطانيين». وفي جعبته أدلة كثيرة على «التقاعس» العربي، فبينما «تصلني عشرات الرسائل الناقدة كلما كتبت مقالاً معادياً لاسرائيل منذ سنوات عدة، نادراً ما اتلقى كلمة تأييد من عربي (...) والأهم ان رئيس تحرير المطبوعة المعنية يصبح اقل قلقاً ازاء وجهة النظر العربية لكنه مضطر لأن يأخذ في الحسبان، وبمنتهى العناية، كيفية التعاطي مع اسرائيل (...) اي ان ذلك يؤثر ايضاً على استعداده للسماح لكاتب مثلي بانتقاد اسرائيل والى اي حد».

وفضلاً عن عدم التوازن بين الدعاية الاسرائيلية والدعاية المضادة، قال دارليمبل ان التاريخ الاوروبي يساعد اليهود على اسماع صوتهم بقوة في بريطانيا حيث «ذكرى المحرقة النازية لا تزال بالنسبة للبريطاني العادي حدثاً رهيباً ومصدر احساس بالذنب يجعله يتردد في القسوة على اليهود (...) والمحرقة كانت فعلاً أبشع المآسي التي شهدتها اوروبا في القرن الماضي». وربما كان هذا الاحساس هو سبب اعفاء اليهود في رأيه من اعتبارهم ساميين يستحقون ان يعاملوا معاملة كريهة. فبعض «العرب هم الساميون الجدد بالنسبة لأوروبا، والعداء للسامية هو سلوك ظالم يستهدفهم واليهود المعاصرون في منأى عنه».