باعة يوغوسلافيا المتجولون يتأقلمون مع قواعد النظام السياسي الجديد

TT

بلغراد ـ رويترز: يلعب زوران لعبة القط والفأر مع القواعد القانونية الجديدة في شوارع بلغراد، اذ يهمس الى صديق له يراقب الاوضاع من على بعد 150 مترا من كنيز ميخائيلوفا، مركز التسوق المتهالك في العاصمة اليوغوسلافية قائلا: «اسرع.. لنبعد الاقراص المدمجة بعيدا عن الانظار»، وذلك قبل ان يهرع اليه صديقه محذرا من ان الشرطة قادمة.

وبحركات محسوبة بدون بعثرة الاقراص المدمجة المسجلة عليها موسيقى الفولكلور التي يبيعونها، فكك الصديقان اربعة الواح عرض خشبية وركضا بها خلف مقهى مجاور. وعاد زوران لخفض صوت مشغل الاقراص المدمجة المحمول الذي كانت تصدر منه اغنية صربية هادئة من اشهر اغاني الستينات عبر مكبري صوت ليسمعها الجمهور المار. وترك جهاز التسجيل في مكانه اذ ان القانون لا يمنع ذلك.

واستند هو وصديقه ميلوتين غير مكترثين الى حائط المقهى، وخلال دقيقتين اقبل شرطيان قويان يرتديان الزي الرسمي. وقال زوران لي: «هل ترى الرجلين اللذين يرتديان الملابس المدنية على الجانب الآخر من الميدان.. عادة لا يكونون بعيدين عن رجال الشرطة المرتدين للملابس الرسمية». واضاف بعد ان افلتت منه زفرة ان الشرطة اصبحت تستهدف الباعة المتجولين الذين يعملون في السوق السوداء في بلغراد في ظل الحكومة الاصلاحية الجديدة اكثر مما كان الحال خلال ادارة سلوبودان ميلوشيفيتش التي اطيح بها قبل ستة اشهر.

وذكر الشاب النحيل البالغ من العمر 25 عاما ذو اللحية الصغيرة: «انهم يحاولون التخلص منا كلنا في الوقت الحالي.. لماذا يفعلون ذلك؟ هذا ليس عدلا، اذ لا توجد وظيفة يمكن الارتزاق منها». واضاف: «اذا منعونا من بيع بضائعنا في الشارع فسوف نصبح لصوصا.. هل يرغبون ان نكون لصوصا؟».

وخلال عهد ميلوشيفيتش اصبحت القوانين المنظمة للمعاملات المالية غير صالحة تحت تأثير اربع حروب، رفعت من معدل التضخم والحصار الذي فرضته الامم المتحدة. وينظر محققون في الوقت الراهن في اختفاء مليارات الدولارات عن طريق الكسب غير المشروع والاختلاس الذي افلس الخزانة وقضى على مدخرات تبلغ الملايين، ودمر معيشة الملايين باستثناء علية القوم من ذوي النفوذ السياسي. وتعلم الكثير من الصرب مثل زوران كسب قوت يومهم عن طريق بيع البضائع المهربة في الشوارع، بدءا من البنزين في زجاجات المشروبات الغازية الى نماذج مقلدة من ماركة ليفايس العالمية للجينز.

ويكلف بيع البضائع من خلال كشك رشوة تصل الى 15 الف مارك الماني (6790 دولارا) وفقا لما تقوله وسائل الاعلام المستقلة. ويقول اقتصاديون ان تجارة السوق السوداء تمثل نحو 40% من اجمالي الناتج المحلي. وتحاول الحكومة الجديدة ان تحقق الاحترام اللازم لسيادة القانون، وهو الامر الضروري للاستثمار الاجنبي الذي تحتاج اليه البلاد بشدة عن طريق محاربة الانشطة التجارية غير المرخص لها، والتي لا تدفع عنها ضرائب، بالاضافة الى اقتفاء اثر المسؤولين الفاسدين ومحاكمتهم.

ويعتقد زوران ان مطاردة شخص مثله ليس عدلا في الوقت الذي لا توجد فيه فرصة لعمل مشروع. وفي واقع الامر فان متوسط الاجور في المؤسسات المملوكة للدولة هو 100 دولار شهريا، وهو مبلغ لا يكفي للعيش من دون امتهان وظيفة اخرى، وهذا هو اسلوب المعيشة هنا اذ ان الكثير من ابناء الشعب في اجازة اجبارية الى اجل غير مسمى من مؤسسات مفلسة او منهارة.

ويقول زوران انه يمكنه احيانا ربح ما يتراوح بين 20 و30 ماركا يوميا في الايام المزدهرة، ولكن ذلك خلال 12 ساعة تقطعها دوريات الشرطة. ويضيف متذكرا: «شأني شأن الكثير من الناس كنت اقف خارج مبنى التلفزيون الحكومي مع ابي وشقيقتي في الخامس من اكتوبر (تشرين الاول) الماضي ضاحكين ومهللين بعد ان داهمه المحتجون، وكان يمكننا رؤية الحرية والديمقراطية مقبلين بعد الاطاحة بميلوشيفيتش، الا ان النشوة تلاشت الآن.. فالاسعار ترتفع بجنون، وسوف نواجه مزيدا من الضرائب، وهناك تغير متواصل في كل شيء ومن الصعوبة كسب العيش، والناس لا يعلمون من أين يمكن ان يأتي المال».

وبعد عشرين دقيقة من مرور رجلي الشرطة اعلن زوران ان الجو آمن.. واخرج هو وميلوتين مشغل الاقراص المدمجة من مخبئه وراء المقهى واعادا نصب الكشك الذي يتخذ شكل الخيمة امام مركز التسوق. ورفع ميلوتين صوت المسجل الى اعلى درجة له، ليعود المارة مرة اخرى للمشاهدة بالرغم من الطقس البارد العاصف. ويقول زوران: «سأرحل يوما خارج يوغوسلافيا، لكن ما ارغب فيه حقا هو الذهاب الى اميركا للحصول على وظيفة ثابتة محترمة ومرتب مجز». واضاف بحياء: «يقول الناس انني اتمتع بصوت غنائي جيد، اود ان يكون الغناء مورد رزقي، الآن والدي يغني في الملاهي الليلية ويمكننا بالكاد كسب قوت يومنا».