مسؤول كبير في الخرطوم: نائب البشير يريد أن يلعب دور الترابي

ليس كافيا حصول أي مسؤول على موافقة البشير لتنفيذ أي مشروع وإنما لا بد من الحصول على موافقة علي عثمان

TT

مشاهدات وملاحظات يكتبها السر سيد أحمد لا تزال اللافتة مرفوعة في قلب عاصمة البلاد حاملة اسم: «واحة الخرطوم»، أسوار من الزنك والخشب تحيط بالموقع، الذي أصبح عبارة عن حفرة ضخمة ارتفعت بداخلها مجموعة من الأعمدة الخرسانية، وفوق هذه البنية الأساسية كان يفترض أن يقام مشروع واحة الخرطوم، الذي يتكون من أربعة أبراج في كل برج 12 طابقا لاستخدامها مكاتب ومحلات تجارية في مكان سوق الخضروات القديم وسط الخرطوم.

المشروع جذب اهتماما أجنبيا، خاصة من بين المجموعات الاسلامية التي نشطت في بدايات عهد الانقاذ لتنفيذ بعض المشاريع، حيث تم في عام 1991 التعاقد مع احدى شركات أسامة بن لادن لتنفيذ المشروع بمبلغ 50 مليون دولار، لكن الآن وبعد مضي عشر سنوات، لا يزال المشروع متعثرا والرواية الرسمية عنه انه ليس على جدول الأولويات في الوقت الراهن.

بصورة ما يبدو مشروع الواحة وكأنه تعبير عما آلت اليه حركة التغيير التي ندب لها نظام الانقاذ نفسه عندما تولى السلطة عبر انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو (حزيران) 1989، نفذته عناصر الجبهة الاسلامية القومية وقتها. فحركة التغيير التي اكتسبت اسم المشروع الحضاري قامت بحفريات على سطح المجتمع السوداني بهدف قولبته وإعادة ترتيبه وفق رؤاها، لكن بعد أن تصرمت سنوات عقدها الأول الذي هيمنت فيه بالكامل على جهاز الدولة وعلى منافذ السلطة والثروة في البلاد تبدو حال المشروع الحضاري مثل مشروع واحة الخرطوم: فلا أهل الحكم قادرون على السير بمشروعهم الى الأمام والبناء على الأرضية التي أقاموها، ولا المعارضون تمكنوا من ردم الحفريات واعادة سوق الخضر الى موقعه أو استغلال الحفريات والأعمدة الاسمنتية في شيء آخر.

أهل الإنقاذ على ان سنوات الانقاذ الأثنتي عشرة، لم تفعل فعلها في المعارضين والسودان عموما، وانما في أهل الانقاذ أنفسهم.

عندما سألت أحد الرموز الفكرية للانقاذ عن موقعه الحالي في خضم خلافات الحركة الاسلامية التي قسمتها الى حزبين متنافسين يسيطر أحدهما على السلطة بقيادة الفريق عمر البشير ويقوم بوضع زعيم الحزب الثاني، الدكتور حسن الترابي، في السجن، أجابني بقوله انه عضو في المكتب السياسي للمؤتمر الوطني الذي يسيطر على الحكم. ثم أضاف بعد برهة قصيرة: «لكن ذلك لا يعني شيئا. فسبدرات ولورنس عضوان في ذات المكتب السياسي أيضا». والاشارة الى الوزير عبد الباسط سبدرات، وهو شيوعي سابق ولورنس لوال لوال وهو من القيادات الجنوبية المسيحية.

محدثي من القيادات الشابة التي ظلت تحتل مقعدها في مجلس شورى الجبهة الاسلامية منذ مصالحتها لنظام الرئيس الأسبق جعفر النميري في عام 1977، ويضيف بصراحة متناهية انه من الذين صوتوا لصالح قيام الجبهة بانقلاب عسكري وتولي الجبهة للسلطة. وأضاف محدثي، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، ان فكرة الانقلاب تعود الى عام 1985، عندما توترت العلاقة بين النميري والحركة، حيث كان القرار بالمضي قدما في فكرة الانقلاب، بل وتم تكليف ربيع حسن أحمد، بكتابة البيان الأول، لكن بسبب التطورات السياسية وحدوث الانتفاضة التي دعمتها القوات المسلحة فقد رؤي الاستفادة من الفترة الانتقالية التي قادها الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، خاصة ان للرجل علاقات قديمة بالحركة.

على ان التوجه الانقلابي لم يخمد بدليل اختيار البشير ليقود الانقلاب في عام 1988، أي قبل عام من حدوث الانقلاب نفسه. ولهذا فقد كانت هناك معارضة لفكرة دخول الجبهة في الحكومة الائتلافية مع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي على أساس انه من الأفضل للجبهة أن تستمر في معارضتها وتستثمر ذلك الوهج لصالح النظام الجديد، لكن الترابي حمل رفاقه على فكرة دخول الحكومة بمنطق ان استراتيجية التمكين الموضوعة تشوبها بعض الثغرات التي يمكن سدها فقط عن طريق دخول الحكم.

وفي ما بعد أوكل أمر الانقلاب الى عشرة أشخاص، كما تم تكليف الدكتور علي الحاج عثمان وخالد مضوي وأحمد عثمان مكي بالبقاء خارج السودان والاتصال بالحركات الاسلامية وتوفير الدعم الخارجي، وتقرر أيضا أن يذهب الترابي وأحمد عبد الرحمن وابراهيم السنوسي الى سجن كوبر تمويها وأن يقود علي عثمان محمد طه المجموعة التي ستساند العسكريين.

وبعد مسيرة طويلة ونشيطة، خاصة خلال سنوات الانقاذ الأولى قال محدثي، انه يجد نفسه بعد انقسام الحركة في المؤتمر الوطني لأن الأصل في المسائل أن يكون الانسان في صف الحكومة التي تؤثر في حياته، لكن انحيازه هذا لن يصل الى درجة حمل السلاح للدفاع عنها اذا تعرض النظام الى تهديد كما كان يمكن أن يفعل قبل بضع سنوات.

هذا الموقف تكرر بصورة أو اخرى خلال المقابلات التي اجريتها.

فاجأني أحد كبار المسؤولين عندما زرته في مكتبه انه مختلف مع المجموعة الحاكمة، وان خلافه معها يتركز حول نقطتين: الأولى ان علي عثمان النائب الأول لرئيس الجمهورية يريد أن يلعب نفس الدور الذي كان يلعبه الترابي، وعليه فبالنسبة اليه ليس كافيا حصول أي مسؤول على موافقة البشير للمضي قدما في أي مشروع، وانما لا بد من الحصول على موافقة علي عثمان كذلك. أما النقطة الثانية فهي انه لا يعتقد بجدية المجموعة الحاكمة في قضايا الوفاق والانفتاح وأنه يعتقد انه خلال فترة الستة أشهر المقبلة ستتضح الصورة أمام عضوية التنظيم وبقية القوى السياسية، الأمر الذي يمكن أن يؤذن بتطورات لا يمكن حسابها، خاصة مع اجهاض أحلام التغيير الكبرى والشعارات التي كانت الدافع لكل ما جرى.

الاحساس باجهاض الأحلام وصل حتى الى العضوية العادية وفي المعسكر المقابل في تنظيم الحركة المنشطر. سيدة في الخمسينات من عمرها كانت تنتمي الى تنظيم الحركة منذ أن كانت طالبة في المرحلة الثانوية، ثم جمدت عضويتها اثر المصالحة مع نظام النميري، الذي كانت تعترض عليه. تتذكر انها دعيت الى اجتماع في مطلع عام 1990، أي بعد ستة أشهر من قيام الانقلاب بصفتها من ذوات التوجه الاسلامي وليتم اخبارها والحضور من المجتمعين ان النظام القائم يتبع للجبهة الاسلامية القومية، رغم النفي العلني للصلة في ذلك الوقت، وان المطلوب من كل أصحاب التوجه الاسلامي مساندة الحكم الجديد بمختلف السبل. وبالفعل تخلت عن ترددها ونشطت في ميدان العمل التطوعي والنسوي على وجه الخصوص لكسب التأييد للنظام.

لكن أحلام اقامة دولة الاسلام بدأت تصطدم بالواقع، ففي الواقع العملي تم تصنيف الناس وبصورة غير معلنة الى ثلاثة أنواع: أهل بدر وهم المنظمون قبل قيام الانقاذ، وأهل الفتح الذين انضموا اليها لاحقا بعد الانقلاب، والمؤلفة قلوبهم. ولم تكن هناك مساواة في التعامل مع هذه الفئات الثلاث سياسيا أو تنظيميا أو وظيفيا. فالقرارات تأتي جاهزة وبعيدة عن الشورى الحقيقية، وهناك مجموعة صفوية من الذين كانوا في التنظيم من أهل بدر هم الذين يسيرون كل شيء، وهم الذين انحاز أغلبهم الى جانب الترابي في ما بعد، ولو أنهم يفتحون المجال أمام مشاركات لكل من هب ودب من المستعدين للمشاركة في أي سلطة، الأمر الذي جعل المؤتمر الوطني وكأنه حزب سلطة مثل الاتحاد الاشتراكي السوداني على أيام النميري. ونتيجة لتراكم الاحباطات رأت السيدة العودة الى موقعها القديم متعاطفة من على البعد مع حلم مجهض.

وفي افادة للدكتور حسن مكي، الذي يعتبر مؤرخا للحركة الاسلامية أن قضية التجديد الحضاري وبسط التدين في مناحي الحياة المختلفة أصبح قضية خاسرة حتى داخل الحزب الحاكم، الذي لا يذكر ما يجري فيه حاليا بما كانت تتحدث عنه الحركة خلال نصف القرن الماضي.

على ان أكثر رمزيات التغيير الذي شهدته الانقاذ يتمثل في مجال آخر. ففي العاشرة والنصف من مساء كل يوم جمعة يعرض برنامج «في ساحات الفداء». البرنامج الذي كان مخصصا للمجاهدين وشحذ الروح القتالية والجهادية بأفق اسلامي لم يعد له ذلك الزخم اذ تغيرت مواعيده من ساعات المشاهدة الرئيسية، كما أصبح يكرر برامجه، وفوق ذلك أصبح موضوع بعض حلقاته في الأسابيع الأخيرة السخرية من الترابي وانتقاده، وهو الذي شكل الأرضية التي قام عليها البرنامج باعطائه الصراع بعدا دينيا جهاديا وإعلاء قيمة الشهادة في مواجهة المتمردين، الذين اتجه أخيرا الى التفاهم معهم.

وصف حزب المؤتمر الوطني انه مثل الاتحاد الأشتراكي تردد كثيرا في اللقاءات التي أجريتها مع متعاطفين مع الحكم، مؤيدين له أو معارضين. الزعيم المعارض الصادق المهدي مثلا يرى ان حزب المؤتمر في الألفية الثانية متخلف في أدائه حتى عن الجبهة الاسلامية القومية في ثمانينات القرن الماضي، التي انبثق منها، ولو انه يحظى بدعم الأغلبية العددية للحركة بينما انحازت الصفوة الى جانب الترابي.

مشكلة المؤتمر الوطني انه يحاول أن يؤقلم نفسه من تنظيم في بيئة شمولية الى وضع تعددي، ويسعى الى اعادة بناء نفسه في ظروف انقسام الحركة الأم وهو في السلطة. وعندما حملت هذه الملاحظة الى البروفيسور ابراهيم أحمد عمر الأمين العام للمؤتمر الوطني كان رده ان المؤتمر يسعى الى الاستفادة من منبر ومرجعيات ومؤسسية الحركة الاسلامية، التي لا ترى غضاضة في أن تكون مرجعيتها القرآن والسنة والاجتهاد، الأمر الذي يتيح لغير المسلمين من أهل الخبرة المساهمة. ويضيف أن ممارسة السلطة لأكثر من عقد من الزمان فتحت الأعين على الكثير، ففي السابق كان يتم تناول الأمور على المستوى النظري. وضرب مثلا على ذلك ان التركيز كان على تنزيل الاقتصاد الاسلامي على أرض الواقع، لكن جاءت الممارسة لتثير أسئلة عن المفاضلة بين المشاركة والمرابحة. كما ان على كل عضو أن يقدم نفسه كعضو في المؤتمر الوطني ووفق عطائه الحالي ومن واقع تجربته وخبرته وليس لأنه من النواة الاسلامية التي كان يقوم عليها التنظيم في السابق. وعما يقال من أن الأغلبية مع الترابي قال البروفيسور عمر، انه عقب تكليفه مسؤولية الأمانة العامة سعى الى الباس المؤسسات غطاء الشرعية وكذلك قرارات حل البرلمان وتجميد الأمانة العامة السابقة التي كان يترأسها الترابي وذلك من خلال مؤسستي مجلس الشورى والمؤتمر العام. وأضاف أن مجلس الشورى يتكون من 600 عضو، والذين يحضرون اجتماعاته عادة في حدود 400 شخص، وفي الاجتماع المعني حضر ما يزيد على 380 عضوا قاموا بالتصديق على قرارات تجميد الأمانة العامة السابقة وحل المجلس الوطني. وأعقب ذلك المؤتمر العام الذي حضر دورة انعقاده السابقة قبل الأزمة عشرة آلاف عضو، بينما لبى الدعوة للمؤتمر الثاني 9200 عضو قاموا أيضا باجازة ذات القرارات، الأمر الذي وفر شرعية بلغت ذروة سنامها باجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي قننت للوضع الراهن، وأن الحزب يتجه الآن الى عملية اعادة بناء تغطي كل السودان وذلك استعدادا لخوض تجربة التعددية السياسية.

وعندما سئل البروفيسور عمر عن جدية الحكومة في قضايا الوفاق، خاصة وقد أصبحت تتحدث عن المواطنة والحريات والتداول السلمي للسلطة، لكن من دون اتخاذ خطوات تضع هذه المبادئ موضع التنفيذ، قال ان فهم الوفاق من قبل القوى السياسية الاخرى مغلوط، اذ ترى فيه مقدمة لتفكيك الدولة، «بينما نحن نرى ببقاء نظام الانقاذ والوصول الى رؤية مشتركة مع المعارضين بوجوده وفي اطاره».